بلغت الاتهامات الأميركية لسوريا أوجها في الشهرين الأخيرين، وختمها السفير الأميركي في بغداد زلماي خليل زادة بتصريحات نارية أشار فيها إلى أن صبر الأميركيين على السياسة السورية قد نفد وإن جميع الخيارات مطروحة تجاه التعامل مع سوريا (بما في ذلك الخيار العسكري).

وترافقت هذه التصريحات مع مثيلتها التي صرح بها وزير الدفاع العراقي سعدون الدليمي معتبراً أن الحدود السورية هي بوابة الدمار وطالب سوريا الكف عن إرسال الدمار إلى العراق، ثم أرسل الرئيس بوش تحذيرات إلى سوريا وأيد الرئيس العراقي تصريحات وزير دفاعه.

وهكذا تحولت التهديدات الأميركية السرية إلى تهديدات علنية، ولم تعد إيحاء بعقوبات عادية تجاه سوريا وإنما تهديداً مباشراً بعقوبات أخرى تصل إلى العمل العسكري ضدها.

مرت العلاقات السورية الأميركية منذ احتلال العراق بتقلبات عديدة بين مد وجزر، ففي حين كانت تتقارب فتستجيب سوريا للمطالب الأميركية بملاحقة (المتسللين) وتسليم (الإرهابيين) واعتقال المطلوبين وأحياناً قبول حضور الجهات الأمنية الأميركية التحقيق معهم، كانت في أحيان أخرى تتباعد إلى درجة العداء السافر.

وبين هذا وذاك لم يكفْ المسؤولون الأميركيون سياسيون وعسكريون عن ممارسة تهديد سوريا المبطن أو المعلن، وإرسال الرسائل حيثما توفر الوسيط مباشرة أو مداورة، رسائل تحمل في طياتها (النصائح) ثم (العتب) ثم (الغضب) ثم التهديد.

وكان السوريون يؤكدون دائماً أنهم يبذلون أقصى الجهود لمنع (التسلل) ولمحاربة (الإرهاب) واستجابوا فعلاً لعديد من المطالب الأميركية وخاصة نشر القوات على طول الحدود (عشرة آلاف رجل) وإقامة نقاط المراقبة (ستمئة نقطة) وتنفيذ إجراءات أخرى عديدة.

واقترن ذلك دائماً بلوم الأميركيين والعراقيين بأنهم لا يبذلون جهوداً لمراقبة الطرف الآخر من الحدود وحمايته، وقد تعرض النظام السوري بسبب هذا التعاون لنقد شديد من قوى المعارضة السورية في الداخل التي اتهمته بالاستجابة للمطالب الأميركية ونبهت من لم ينتبه أن هذه المطالب لا يمكن أن تنتهي. فكلما استجابت سوريا لقائمة منها سيقدم الأميركيون قائمة جديدة، وهذا ما حصل بالفعل.

من الطبيعي أن تكون السياسة السورية سعيدة بتراكم حجم الصعوبات أمام الأميركيين في العراق، على أمل أنه كلما زادت المشاكل هناك كلما كف الأميركيون عن الضغوط على سوريا، واحتاجوا لمساعدتها لهم أكثر فأكثر، إلا أن هذا شيء وحماية (المتسللين) وتسهيل تهريب السلاح شيء آخر.

ولذلك ينفي السياسيون ومسؤولو الأمن السوريون تورطهم البتة في تسهيل تهريب الأسلحة والرجال، ويؤكدون دائماً أن أمن العراق واستقراره هدف عزيز عليهم يهمهم كما يهم غيرهم، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك واستقبلوا مسؤولين عراقيين ورحبوا بهم.

وأمنوا احتياجات حياتية للشعب العراقي، وزودوا العراق بالكهرباء. ويبدو أن ذلك كله ذهب أدراج الرياح لأن الأميركيين لم يقتنعوا بتعاون سوريا واستمروا بدلاً من ذلك يتهمونها بأنها تزيد النار اشتعالاً في العراق.

يقول بعض المتابعين للعلاقات الأميركية السورية أنها بدأت تسير في طريق مختلفة وتتدهور منذ عام ونيف، وقد أخذت مراكز دراسات أميركية وكتاب أميركيون يشيرون في دراساتهم وكتاباتهم إلى أن خروج الأميركيين من ورطتهم في العراق يقتضي التعامل بشكل مختلف مع سوريا، سواء بفرض العقوبات الاقتصادية.

وغير الاقتصادية عليها أم ببعض الأعمال العسكرية، لأن التواصل والمحادثات والوعود والتحذيرات لم تعد تجدي نفعاً، والملاحظ أن الاتصال المباشر الأميركي السوري خلال العام المنصرم كان نادراً وربما معدوماً على أي مستوى.

وكان الأميركيون يرفضون أي رسالة من سوريا عن طريق طرف ثالث، (فقد تململ الرئيس بوش مثلاً من رسالة نقلها أردوغان رئيس الوزراء التركي) وهو يمنع على مساعديه وعلى الدبلوماسيين الأميركيين الحاليين والسابقين أيضاً نقل مثل هذه الرسائل، وقد رفض بتصريح علني الاهتمام بتحسين العلاقات الأميركية السورية.

وقرر قطع خيوط اللقاء أو التلاقي مع النظام السوري، وفي الوقت نفسه يراهن هو وإدارته أن يسفر التحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عن تهمة أو شبهة لمسؤولين سوريين حتى يتخذها مبرراً لفرض العقوبات على سوريا بل والانتقام من السياسة السورية التي يتهمها بممارسة دور (تخريبي) في العراق، ويقال إن صياغة العقوبات المحتملة وأخذ الموافقة الدولية عليها قد انتهت بانتظار التنفيذ فور تقديم ميليس تقريره إلى مجلس الأمن.

لقد حاولت السياسة السورية خلال السنتين الماضيتين أن تكسب ود الإدارة الأميركية خوفاً منها أو اتقاء لشرها وتعاونت معها بالفعل وقدمت لها مساعدات عديدة وكبيرة سواء فيما يتعلق بالشأن العراقي أو في غيره، إلا أن الصد الأميركي والتهديد الأميركي لسورية الذي لم ينقطع.

وإخراج الجيش السوري من لبنان، وتجريد سوريا من بعض أوراقها الإقليمية أو كلها، ومحاصرتها أوروبياً وأميركياً، وتهديد النظام برمته، جعل هذه السياسة تبحث عن مخارج هي أمنيات في الواقع نادرا ما تكون قابلة للتطبيق، لأنها لا تأخذ الظروف الموضوعية الإقليمية والدولية بعين الاعتبار.

في الوقت نفسه بقدر ما تتمنى السياسة السورية ازدياد المصاعب في العراق أمام السياسة الأميركية وغرقها في مستنقع المشاكل والصعوبات، بقدر ما تخشى أن تطالها النار المشتعلة هناك، سواء بانتقال هذه النار التلقائي أم المخطط أم المدعوم أميركياً.

وهي على كل حال مترددة بين موقفين أولهما الرغبة بإرباك الأميركيين وثانيهما الخوف من تفجر الوضع العراقي الداخلي، ولاشك أن الموازنة بين الموقفين تحتاج لمهارة فائقة وقدرات استثنائية وظروف إقليمية ودولية مختلفة، وعلى أية حال فإن هذه التناقضات تجعل الموقف السوري متردداً وحذراً ومتناقضاً بين ما يتمنى تحقيقه ومالا يستطيع فعله.

وهكذا فهو صادق عندما ينفي الدعم المباشر للمقاومة العراقية وصادق أيضاً عندما يتمنى مزيداً من المصاعب للسياسة الأميركية، ولا يرى من واجبه أو في قدرته حراسة مئات الكيلومترات التي تشكل حدوداً بين البلدين، إنه كما يبدو لا يقدم تسهيلات للتسرب لكنه غير مغتاظ من حدوثه، وهذا ربما يلتبس على الأميركيين.

من المؤكد أن مستقبل العراق يؤثر على مستقبل المنطقة، وأن الوجهة التي يسير فيها مستقبلاً سيترتب عليها إسقاطات إقليمية مهمة، وهذه الفرضية هي التي تدعو الأميركيين والسوريين ليكون لكل منهما شأن فيه، فالفشل الأميركي يؤدي لتداعيات قد تؤخر تحقيق قيام الشرق الأوسط الكبير، والنجاح الأميركي سيكون وبالاً على سورية.

ولعل هذا يفسر الحماس الأميركي الاستثنائي لتحقيقات ديتليف ميليس برجاء أن تقدم نتائجها مبررات شرعية للسياسة الأميركية لتقرر مصير سورية وبطريق مجلس الأمن هذه المرة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)