لماذا الاستقواء على سوريا الآن؟ ولماذا التصعيد الأميركي والتلويح الخطر بالخيار العسكري؟ هل فرغت الإدارة الأميركية في الذكرى الكئيبة لاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر من الملف الأفغاني ومن الملف العراقي حتى تفتح الملف السوري؟

هل فرغت الإدارة الأميركية من تصفية آثار الإعصار الذي عصف بولايات الجنوب الأميركي حتى تثير في الشرق الأوسط عاصفة جديدة؟ لا شيء من هذا تحقق في الملفات السابقة ولا شيء في الملف السوري يبرر وضع سوريا في مواجهة العاصفة الهوجاء إلا النوايا الأميركية المبيتة لمحاولة إخضاع سوريا، خصوصا بعد الجهود السورية المتتالية للتعاون الأمني مع العراق والمحاولات الجادة لضبط الحدود، وبعد النوايا الحسنة التي أبدتها للتعاون مع التحقيق الدولي يشأن لبنان.

القاصي والداني في هذا العالم وفي داخل الولايات المتحدة يدرك المأزق الذي وضعت الإدارة الأميركية الجيش الأميركي فيه سواء في أفغانستان أو في العراق، والذي توشك أن تضع الشرق الأوسط فيه باستمرارها في سياسة إشعال الحرائق خدمة لصناع السلاح وتجار الحروب تحت زعم نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب متجاهلة أن مثل هذه السياسة هي التي تزيد من اشتعال الإرهاب، ومتناسية أن الاحتلال هو أعلى مراحل الإرهاب.

وتصريحات السفير الأميركي في المنطقة الخضراء في بغداد الملوحة بالتهديد لسوريا بحجة عدم قيامها بحراسة الحدود العراقية منطق أخرق يحتاج إلى المنطق ، فالقوات السورية معنية في الأساس بحراسة الحدود السورية بينما تصبح على قوات الاحتلال التي حلت الجيش العراقي أن تقوم هي بحراسة الحدود العراقية ويجب ألا تلقي مسؤولية فشلها على جيران العراق، وعلى سوريا خصوصا من دون كل الجيران !

الرد على هذا المنطق الذي يفتقر إلى المنطق يأتي من وزير الدفاع العراقي الذي صرح مؤخرا أنه من المستحيل عليه أن يضع عسكريا عراقيا على كل متر على حدود تمتد إلى 750 كم.. فهل سوريا هي التي تستطيع؟!

والمنطق يقول إذا كانت القوات الأميركية قادرة فقط على احتلال العراق ، وقادرة فقط على شن المعارك الضخمة على مدنه الصغيرة بينما تعجز ومعها القوات العراقية عن وقف عمليات العنف والمقاومة داخل العاصمة بغداد! فهل يتصور أحد أن يكون بمقدورها حراسة حدوده؟!

العجز والفشل إذن هما الدافع لإطلاق مثل هذه التهديدات، ومحاولة الظهور بمظهر القوة هو محاولة لتحويل الأنظار عن العاصفة السياسية إلى يتعرض لها الرئيس الأميركي في فشله في مواجهة «كاترينا».

والقاصي والداني يدرك حجم الخسائر البشرية والمادية الأميركية بسبب الإصرار على انتهاج مبدأ الخيار العسكري والحروب الوقائية لما تطلق عليه «الحرب ضد الإرهاب», وتتناسى أن هذه السياسة الخاطئة التي استهدفت ما تطلق عليه جعْل العالم أكثر أمناً زادت من توليد مصادر الإرهاب.

والاتهامات التي تسوقها واشنطن لدمشق أصبح من الصعب على العالم أن يصدقها بعدما تكشف للعالم زيف الاتهامات التي سبق أن رفعتها الإدارة الأميركية لتبرير شن الحرب على العراق.

ومحاولة إرهاب سوريا تأتي في سياق واحد مع حملة متعددة الأوجه ضدها بهدف الترويض والابتزاز نظرا لارتباط الملف السوري بالملف اللبناني من جهة وبالملف الفلسطيني من جهة أخرى، ومحاولة ربطها بالملف العراقي الآن محاولة مكشوفة.

أميركا الفاقدة للمصداقية يصعب عليها أن تنجح في تسويق الاتهامات لهذا البلد أو ذاك بعدما تهاوت مزاعم امتلاك العراق للسلاح النووي وبعدما تكشفت خديعة العلاقة بين النظام العراقي والقاعدة.

وبعدما تحول «تحرير العراق» إلى تدمير، وتحولت حكاية نشر الديمقراطية فيه إلى إشاعة الفوضى وإلى مشاهد دامية من حرب المدن وحرب الشوارع وبعدما تحول «إعمار العراق» إلى مناطق بلا ماء وبلا كهرباء ولا أمن.

أميركا تتعامل مع العالم العربي والإسلامي بمنطق القوة، بينما تفتقر إلى حد بعيد لقوة المنطق والقوة مهما بلغت لا يكون بمقدورها قلب الحقائق، أو صناعة التاريخ على هواها، والدول العربية والإسلامية، ومن موقع الحرص على العراق وعلى سوريا يجب ألا تسمح لواشنطن أن تتحدث باسمهم أو باسم لبنان ضد سوريا أو باسم العراق ضد سوريا، لأنها في الواقع تتحدث نيابة عن إسرائيل ضد كل العرب والمسلمين، وتفتعل الأزمات لتبرير شن الحروب، في محاولة لفرض أجندتها الخفية ضد المنطقة تنفيذا لخطة القرن الأميركي.

لكن للقوة مهما بلغت حداً تنقلب بعده القوة إلى ضعف، والعدوان إلى فشل والاحتلال إلى انسحاب.

ويكفي القوة الأميركية عجزاً أنها لم تفلح حتى الآن في القضاء على القاعدة أو على المقاومة المستمرة لجيوشها الجرارة في أفغانستان والعراق.

منطق القوة لا يفيد في كسر إرادة الحرية والكرامة لدى الشعوب، لأنه لم يفد الإمبراطوريات الاستعمارية على مدى التاريخ كله وعلى امتداد الكرة الأرضية في وقف المقاومة ضد الاحتلال.. فهل تريد الإمبراطورية الأميركية الجديدة محاولة إعادة اكتشاف الكهرباء؟!

أم أن الذاكرة التاريخية للولايات المتحدة ليست مخزنة على القرص الصلب في الكمبيوتر الأميركي الضخم في البنتاغون على الرغم أنه وبكل تأكيد يمكن الإطلاع عليه في قسم التاريخ بمكتبة الكونغرس الشهيرة.

التاريخ يعلم من يريد أن يتعلم أن منطق القوة لن يخلف للعالم إلا الخراب والكراهية وأن قوة المنطق تتطلب حل المشاكل السياسية بالحوار، وأن الأولى للقوى الكبرى أن تنشر الحرية لا الاحتلال وتنشر العدالة لا الظلم، وأن تصنع السلام وليس الحروب.

لو أن الولايات المتحدة جاءت إلى العرب والمسلمين بتكاليف الحروب ضدهم بمساعدات لتنمية بلدانهم، وبمصانع لتشغيل أبنائهم، وبمدارس لتعليم أجيالهم، وبمستشفيات لعلاج مرضاهم لرحبت بها كل الشعوب، ولكان لها من النفوذ أضعاف ما تصنعه لها الحروب، ولم تكن لتعاني مما تشعر به من كراهية، ولم تكن لتنفق مليارات الدولارات لتحسين صورتها أمام العالم.

لكن للقوة أحياناً، حين تفتقد الحكمة، حماقتها، ولها حين تفتقد المنطق غطرستها، ولها حين تفتقد إلى دروس التاريخ إغراءات الأقدام، مغامرات فاشلة قد تؤدي بها إلى كوارث مهلكة.

فقليل من الإسراف في منطق القوة، وكثير من انتهاج قوة المنطق وبدلاً من التلويح بإنذارات الحروب كان من الأجدى التلويح بأغصان الزيتون.

والحل في النهاية بقوة المنطق لا بمنطق القوة ولنلتفت إلى الماضي قليلاً كي نتمكن من قراءة المستقبل.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)