لو عاد المعنيون بتقويم المواقف والتوقعات إلى أربع سنوات خلت، وتحديداً في الأيام التي تلت هجمات الحادي عشر من أيلول في الولايات المتحدة، لوجدوا حصاداً وافراً من بشائر السوء للعرب والمسلمين وعكسها تماماً من النتائج الطيبة التي ستعود على الولايات المتحدة والدولة العبرية، بل إن كثيراً من «الأذكياء» ذهبوا تبعاً لذلك إلى التأكيد على أن الموساد هو من دبّر العملية، وأقله بعض المحافظين الجدد في إدارة بوش من أجل توفير الذريعة للهجوم على العالم العربي والإسلامي، بل على العالم بأسره من أجل الهيمنة المطلقة عليه.

الآن وعلى رغم أننا مررنا بالقصة بعد عام وعامين على وقوعها، إلا أن التقويم بعد أربعة أعوام يبدو مهماً لأن كثيرين قد يعودون إلى التأكيد على الحصاد المر للهجمات على العرب والمسلمين تبعاً لمعطيات هنا أوهناك.

لقد وقفنا منذ الأيام الأولى للهجمات في مواجهة التيار السائد، وقلنا أن كوارث لن تصيب الأمة من جراء الهجمات، بل ربما تكون الحصيلة على المدى المتوسط جيدة إلى حد كبير، وقلنا أيضاً إن ذلك لا يعني تأييد الهجمات من الزوايا الأخلاقية أو السياسية أو الشرعية، بقدر ما يعني إدراكاً لروحية الغطرسة التي تحكم سلوك الإدارة الأميركية، وهي غطرسة غالباً ما تتوفر في سلوك الإمبراطوريات الكبرى، لكن تضخمها في حالة المحافظين الجدد هو الذي تكفل بتحويل ايجابيات الهجمات إلى مصائب على الولايات المتحدة ومستقبلها.

لنتذكر صرخة العالم أجمع يوم الهجمات، «كلنا أميركيون»، كما عبرت عن ذلك صحيفة «لوموند» الفرنسية التي عادت بعد عامين إلى القول «كلنا لا أميركيون»، وفيما كان العالم متفهما لهجوم الولايات المتحدة على أفغانستان إلا أنه عاد ورفض بحدة الهجوم على العراق، أما الأوروبيون فكانوا بعد عام أقل من عام على الهجمات يضعون الدولة العبرية والولايات المتحدة في المرتبة الأولى والثانية بالنسبة للدول الأكثر تهديداً للسلام العالمي، بحسب الاستطلاع الذي أجراه الاتحاد الأوروبي في العام 2002.

لنبدأ بالدولة العبرية. ترى من هو الذي توقع أن تتزامن الذكرى الرابعة لهجمات أيلول في الولايات المتحدة مع الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، وهو انسحاب أقر شارون والعالم أجمع بأنه تم بسبب المقاومة. وإذا قيل هنا إن مشروع الانسحاب هو مشروع الاستيطان وسرقة الأرض وصولاً إلى الدولة الموقتة، فسنذكّر بما قيل بعد أيام من الهجمات بأن انتفاضة الأقصى ستنتهي وسيفرض شارون ما يريد من تسوية على العرب والفلسطينيين، فمر عامان من دون أن يحدث ذلك وليضطر شارون إلى إعلان مشروع الانسحاب من غزة لترميم وضع دولته أمام الرأي العام العالمي الرسمي والشعبي، في ذات الوقت الذي يعيد فيه اللحمة إلى المجتمع الإسرائيلي الذي أعلن ضجره من وعود شطب الانتفاضة التي لا تتحقق.

الآن، نعلن أيضاً أننا على ثقة من أن أحلام شارون لما بعد الانسحاب من قطاع غزة لن تتحقق، وإذا جرى إدخال الصراع في متاهة تسوية جديدة كما هو واقع الآن، فإن ذلك لا يعدو أن يكون جزء من تراجعات النظام الرسمي الفلسطيني ومرجعيته العربية التي غالباً ما تترنح أمام ضغوط الإصلاح، وهي ضغوط كان يمكن أن تتوفر في ظروف أخرى. لكن ما ينبغي التأكيد عليه بالمقابل هو أننا إزاء متاهة موقتة، والنتيجة هي أن ما سيمكث في الأرض هو تحرير قطاع غزة، أما الاستيطان في الضفة والقدس إذا ما تعزز خلال المرحلة المقبلة فلن يكون مصيره غير مصير مستوطنات غزة التي كان شارون يراها بأهمية تل أبيب.

والحال أن مستقبل مشروع شارون سيكون معتمداً على مصير المشروع الاستثماري الأميركي في هجمات الحادي عشر من أيلول، وإذا نجح هذا الأخير فسينجح الأول، لكن ذلك لن يحدث وبشائر الموقف بادية للعيان.

نأتي هنا إلى مصير المشروع الأميركي في بعديه؛ المعلن المتعلق بالحرب والإرهاب، والمخفي المتعلق بإعادة تشكيل المنطقة، أي وضعها تحت الزعامة الإسرائيلية، أو المتعلق بالسيطرة على العالم خلال القرن الجديد من خلال السيطرة على نفط العراق وبحر قزوين ونشر القواعد العسكرية في كل مكان في العالم.

بالنسبة لمشروع الإرهاب تكفي التقارير الأميركية التي أخفيت وافتضحت أرقامها إلى جانب المعطيات الواضحة في العراق من أجل القول إنه مشروع برسم الفشل، إن لم يكن قد فشل وانتهى الأمر، وها هو العراق الذي لم يعرف الإرهاب بحسب التعريف الأميركي يغدو مصدّراً له إلى الخارج، وليس منتجاً له لأغراض الاستهلاك الداخلي فقط!

بعد أربع سنوات يتضح تماماً أن مشروع الحرب على أفغانستان الذي بدا أكثر نجاحاً من مشروع الحرب على العراق قد فقد زخمه ولاحت ملامح فشله، فقد ثبت، بحسب إحصاءات البنتاغون خلال الشهور الستة الأولى من هذا العام أن خسائر القوا ت الأميركية في أفغانستان قياساً بعدد قواتها المتمركزة هناك هي أكثر من الخسائر في العراق.

أما المشروع في أبعاده الحضارية والديموقراطية فلا يبدو ذا قيمة لأن الأحوال أيام طالبان كانت أفضل، أقله بالنسبة لما يقرب من نصف السكان من البشتون، الأمر الذي يعزز من التمرد في صفوف القبائل المنتمية إلى هذه العرقية على جانبي الحدود الباكستانية والأفغانية. وفي العموم فإن المشروع الأميركي لم يحقق شيئاً وانتشار المخدرات التي كانت «طالبان» على وشك القضاء عليها خير شاهد على ذلك، أما مقاومة الحركة وأنصارها فقد وصلت حداً يؤكد أن نزيف المال والرجال الأميركي قد بدأ عملياً في أفغانستان. وتبقى دولة طالبان التي ضاعت كخسارة بحسب البعض، وهي في واقع الحال لا تبدو بتلك الأهمية الاستراتيجية للأمة، خصوصاً حين ينظر إلى عودتها أو عودة نموذج إسلامي توافقي معقول في البلاد كلها بعيداًُ عن الاحتلال الأميركي كحقيقة قادمة، ونذكّر هنا بأن الخلاف الأفغاني الأفغاني لا يتعلق بمشروعية الإسلام ومرجعيته بقدر ما يتعلق بخلافات عرقية، وربما مذهبية أو حزبية.

نأتي إلى مشروع احتلال العراق، وهنا يمكن القول إنه لم يعد ثمة خلاف على وقوعه رهينة بين مطرقة المقاومة وسندان القوى الشيعية المتحالفة مع إيران، ولن يخرج من المأزق إلا بالرحيل أو اللجوء إلى لعبة التقسيم التي لن تجدي عملياً إذا تذكرنا المعطى الإيراني والتركي وتداعيات الموقف على استقرار الخليج والمنطقة.

مشروع الحرب إذاً، وتبعاً له مشروع إعادة تشكيل المنطقة في طور الفشل، وإذا أضفنا إلى ذلك ما يعنيه الفشل من تأثيرات على السطوة الأميركية على الوضع العربي والدولي ومن فشل للمشروع الذي يحلم به شارون، فسندرك أن هجمات أيلول قد تحولت وبالاً على الحليفين أكثر مما هي مصيبة على الإسلام والمسلمين، لاسيما حين نتذكر أيضاً أن الإسلام لم يتأثر سلباً بها إلا في وعي سالب من الأصل، بدليل ازدياد عدد المقبلين على اعتناقه في كل العالم، فيما تبدو أوضاع الحركة الإسلامية أفضل من ذي قبل في معظم الأقطار، وتبعاً لذلك الصحوة الإسلامية والانحياز إلى قضايا الإسلام والأمة في كل مكان من العالم الإسلامي، وحتى المهجر.

قد يبدو التراجع العربي القائم شاهداً على مساوىء جرتها هجمات أيلول وتبعاتها كالحرب على العراق على الأمة، لكن ذلك يبدو نسبياً لأن النظام العربي كان دائم التراجع أمام المطالب الأميركية بين مرحلة وأخرى، وفيما يبدو هذا التراجع مكلفاً من حيث ما يجري في فلسطين والتهاون في مواجهة استحقاقات ما يسمى الفيديرالية على وحدة العراق، ومن ثم مرحلة الهرولة والتطبيع المتوقعة القائمة والمتوقعة، فإن إمكان انتهاء هذه المرحلة وعودة الوضع إلى صيغته المقبولة لا بد أن يشكل نافذة تفاؤل تؤكد الفشل الأميركي في استثمار الهجمات من أجل تأكيد حضورها الدولي وتعزيز المصالح الإسرائيلية، بل تؤكد أن المسار سينعكس عليها سلباً على مختلف الأصعدة، بما فيها الداخلية وحيث خسر الأمريكيون من القتلى والجرحى إلى الآن، فضلاً عن الخسائر المالية، أضعاف ما خسروه جراء «غزوة مانهاتن» كما يسميها أسامة بن لادن الذي لا يزال إلى الآن بعيداً عن قبضة ما يسمى العدالة الأميركية التي توعده بها جورج بوش قبل أربع سنوات!

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)