في الأسابيع الماضية تصاعدت التصريحات الأميركية التي تتهم سوريا بأنها قاعدة انطلاق للإرهابيين إلى العراق، تصريحات تدعو صراحة إلى عزل دمشق وعقابها، وتدعو إلى تشديد العزلة على دمشق.

وكان آخر هذه التصريحات ما قالته وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس التي حثت على «تكثيف» الضغوط الدولية على سورية، ووصفتها بأنها أصبحت معزولة فعلا.

هذه التصريحات تخفي وراءها ملامح خطة أميركية لعقاب سوريا، وأولى هذه الملامح التي بدأت تتشكل بوضوح هي عزل النظام السوري من سياقه العربي، ثم اتهامه مباشرة بعد تحقيقات ميليس بشأن اغتيال رئيس الوزراء السابق في لبنان السيد رفيق الحريري، يلي ذلك اقتراح قانون تصوت عليه الأمم المتحدة بعقاب سوريا اقتصاديا، ثم أخيرا الانقضاض على النظام.

هذه هي الخطوط العريضة للخطة والتي تبدو أكثر احكاما مما فعلته أميركا مع نظام صدام حسين، بعد أن تعلمت واشنطن من الأخطاء التي وقعت فيها مع نظام الرئيس العراقي المخلوع. وقبل أن أسهب في تفسير ملامح الخطة الأميركية، أتمنى من جماعتنا في سوريا ألا يتعاملوا مع هذه الخطة بنفس السخف والتخبط السياسي السابق، إن كانوا يريدون إنقاذ بلادهم من مصير أسود. فلا داعي أن يخرج علينا مسؤول سوري بعد قراءته تقريرا لسكرتير ثالث في سفاراتهم في واحدة من الدول الكبرى، ليقول بأن هذا مقال «يقطر حقدا أسود على سوريا». إنني أكتب عن سوريا بدافع الحب لأناس بسطاء مثلنا يريدون تربية أبنائهم وبناتهم في سلام.

وقبل أن أبدأ في التفاصيل أعبر عن دهشتي لهذا الفارق الكبير ما بين شعب مبدع وخلاق معروف عنه «الشطارة والتجارة» والمرونة عبر العصور، وحالة التيبس التي تبدو واضحة في تصرفات النخبة السياسية الحاكمة.

أبدأ تصوري لسيناريو معاقبة سوريا المعقد بالخطة الأميركية لعزل سوريا عن سياقيها الإقليمي والدولي. بداية تبدو سوريا معزولة عن كل دول الجوار العربي لها مثل العراق ولبنان والأردن. عزل سوريا عن لبنان ليس عزلا حكوميا فقط، وإنما اتخذ صيغة عداء شعبي لبناني لسوريا، فسوريا اليوم تصور على أنها عدو للبنان، وآخر ملامح هذا العداء جاءت في بيان صادر من لبنان يقول بأن الإسرائيلي أفضل من السوري عند بعض اللبنانيين، هذا من ناحية أول دولة مجاورة لسوريا. أما الموقف العراقي من سوريا فجاء واضحا في تصريح وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري لنيويورك تايمز، الذي قال فيه إن «سوريا تلعب لعبة خطرة في العراق». إذًا سوريا تصور كعدو للجار الثاني لها، فهي متهمة من الشعب العراقي والحكومة العراقية بأنها جار معاد، فهل تكفي دولتان تعاديان سوريا كي نقول بأنها حوصرت عربيا، بالطبع لا، لكن أيضا سوريا تبدو غير مرغوب فيها من طرف الأردن وهو جار ثالث، الجار الرابع وهو إسرائيل في حالة عداء محكم مع سوريا، ويحتل جزءا من أرضها.. سوريا أيضا على علاقة ملتبسة مع الدول العربية الكبرى مثل مصر والمملكة العربية السعودية.

إذًا قلعة العروبة لا تتحدث إلى العرب، أو حوصرت عربيا، وما تبقى لسوريا من علاقات هي مع دول مثل إيران وتركيا، دول الجوار غير العربية هي المنفذ الوحيد لقلعة العروبة. وهنا لا يمكننا إلا إن نفسر القلعة على أنها حصن منغلق يعزل النظام سياقه العربي وعن بقية العالم.

يتضح حجم المأساة إذا ما قارنا محاولات أميركا لعزل نظام صدام حسين، مع محاولات أميركا لعزل سوريا، لنجد أن أميركا نجحت في عزل سوريا وفشلت في عزل صدام عربيا. نظام صدام نجح على الأقل بأسلوب الرشاوى أن يخلق جوقة من المؤيدين له من الإعلاميين مدفوعي الأجر، الذين كانوا يقلبون هزائمه إلى انتصارات. سوريا حتى الآن فاشلة في أن تفعل ذلك. أكبر مدفعية صدام الإعلامية كانت ممثلة في فنانات سوريات كن يذهبن إلى بغداد كل أسبوع للاطمئنان على طفل العراق الكبير، فنانات طفن العالم العربي من المحيط إلى الخليج لتبييض وجه نظام قبيح. وللأسف لم يقمن بالشيء نفسه من أجل بلدهن الأم.

إذًا سوريا في وضع أسوأ من وضع صدام فيما يخص علاقاتها العربية. هذا من ناحية الحصار الإقليمي.

أما الشق الثاني من الاستراتيجية الأميركية فهو انتظار إدارة بوش حتى ينتهي ديتيلف ميلس من تقريره حول مسؤولية من قتل الحريري، وواضح من مجموعة الصفقات التي عقدها ميليس مع بعض رجال الأمن اللبنانيين والسوريين، أن التقرير سيأتي مدينا لسوريا ولحليفها اللبناني إيميل لحود ومن معه.

إذا ما ورد اسم النظام السوري في تقرير ميليس، فإن الولايات المتحدة الأميركية ـ حسب مصادر عليمة ـ ستتبنى قرارا في مجلس الأمن مؤيدا بكل من فرنسا وبريطانيا لفرض حصار اقتصادي على سوريا. هذا المقترح قد يصوت لصالحه كل الأعضاء باستثناء الصين التي قد تمتنع عن التصويت. ونتيجه هذا الحصار الاقتصادي ستكون أشبه بالحصار الذي فرضه العالم على ليبيا بعد اتهامها في قضية لوكيربي. وبذلك تعزل سوريا في دائرة أوسع من دائرة العالم العربي، حيث تجمد أوروبا شراكتها مع سوريا، ويبرر العرب عدم تعاملهم مع سوريا على أنه التزام بالشرعية الدولية، وربما بعد سنوات قد تخرق الحظر طائرة أو طائرتان تحملان غذاء لأطفال سوريا، هذا هو أقصى تصرف عربي ممكن.

يبدو من كل التصريحات الأميركية وكذلك الأوروبية، بداية من تصريحات الرئيس بوش ووزيرة خارجيته وكذلك تصريحات مستشاره للأمن القومي، وحتى تصريحات القيادات الأوروبية متمثلة في جاك شيراك، أن الخطوة التالية للحصار الاقتصادي هي حملة لتسويد وجه النظام السوري عالميا، مما يهيئ الرأي العام لقبول فكرة تغيير النظام، ولن يأتي هذا من خلال هجوم أميركي مباشر على غرار ما حدث في العراق، ولكنه سيبدأ بشكل تدريجي من العراق حيث تدخل بعض الوحدات العراقية والأميركية إلى الأراضي السورية بهدف تأديب الإرهابيين والقضاء على قواعدهم في سوريا، وبذلك يتحول جزء كبير من الأراضي السورية المجاورة للعراق إلى شيء أشبه بحال جنوب لبنان عندما كانت تحتله إسرائيل. وكما لم ينقص إسرائيل الذرائع للتحرك من الجنوب اللبناني حتى بيروت، فإن التحرش الأميركي بسوريا لن يتوانى في خلق ذرائع تدخله إلى دمشق. هذا هو السيناريو الذي يعد الآن فماذا أمام العرب وسوريا من خيارات؟

آخر تصريح سوري صادر عن السفارة السورية في واشنطن التي شجبت فيه السفارة الأعمال الإرهابية في العراق في أول سطرين، ثم خربت الموضوع برمته في بقية السطور، يوضح أن النظام لم يبرأ من أمراض الخطابات الطنانة، وما زال يستخدم لغة عفى عليها الزمن تعد طلاسم بالنسبة لبقية العالم، وربما للشعب السوري نفسه ولا يفهمها سوى نفر داخل النظام.

سوريا الآن في ورطة حقيقية. هذا هو لب الأمر وعموده. إذا ما العمل كي نجنب شعب سوريا دفع ثمن لقرارات خاطئة؟ الحل يكمن في اجتماع لكل الدول العربية بما فيهم سوريا، شريطة أن يكون السوريون مستمعين فقط، لا يسمح لهم ولو بخطبة واحدة من الخطب العصماء المطولة، الهدف من هذا الاجتماع هو منح سوريا غطاء سياسيا للخروج من الورطة الحالية، كذلك يقدم هذا الاجتماع إطارا يحفظ لسوريا ماء وجهها وهي تتراجع عن حزمة السياسات التي أوصلتها إلى هذا المأزق، سياسات تنم عن عناد وتيبس في الرأس. فدونما تراجع سوري عاجل، ودونما غطاء سياسي عربي عاجل أيضا لهذا التراجع، سنشاهد سوريا وهي تتجه بخطى واثقة في اتجاه الجحيم بسرعة البرق، ويبقى نفر من العرب المجانين يصفقون لها وهي تتجه إلى الهاوية لآخر قلعة للعروبة. أرجو ألا تفهم أيضا سوريا أن السيناريو سيطول وربما يلزمه سنوات قبل التنفيذ، وربما يرحل نظام بوش قبل أن يؤثر الحصار على سوريا. مثل هذا الفهم هو بداية الحسابات الخاطئة.

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)