ما الذي جمعنا لربع قرن ليكون لموتك يا نهاد فعل هذه الاستعادة المرة ؟

شريط رهيب من حلو ومن مر . صور تتوالى سريعة ، متناقضة، ما يجمعها فقط هو ثراء تلك التجربة التي ولدت من عاصفة لا كالعواصف ونمت في مناخ لا كالمناخات . صور لا تبدا من المعرفة الاولى كما هي العادة ، بل من رحلة غريبة اولى : امراة في الثلاثينات ، تقطع غابات الصنوبر الفاصلة بين ضفتي نزيف الحرب اللبنانية ، وحولها خمسة اطفال ـ تركهم الاب ليلحق باللقمة في احدى دول الخليج ، وليؤمن للعائلة ما اصبح مستحيلا في بلاد تاكل احشاءها ، وتشطر قلبها لتبيعه بالمفرق في سوق الجزارين ، وتفرش شعرها الثر سجادة للموت ثم للاحتلال .. في غياب الاب وصلت العاصفة باب الدار ، جاء الاخرون ( وكان الاخر يعني الالغاء ، الذي اقلّه التهجير ) ، امروا المراة ان تخرج واطفالها ، والا تنظر الى الوراء ، امتثلت مقايضة التشرد بالارواح ، وبدات الرحلة ... كنا كثيرين جمعتنا في شتورة مآلات رحلات متشابهة في قسريتها وفي علامات الاستفهام الفارغة التي تلف مستقبلنا : مستقبلنا كبشر ومستقبل بلادنا كلها . عائلات وافراد ، احسنهم حظا من لم يدفن حبيبا خلال الرحلة وأسوأهم من لم يقيض له دفن حبيبه الذي د يعرف او لا يعرف كيف مات . من منا نسي تلك الام التي كنا نتهامس ، لنصمت حين تاتي ، كي لا تسمع من احدنا حكايات التعذيب التي اصابت وحيدها قبل القتل .

كان الوطن كله على المشرحة ، يتجه الى المقصلة ولكن بدون ان يترك وراءه لا اعلان حقوق الانسان ولا اعلان حقوق المواطن ، لم يكن قتلانا ضحايا روبسبيير الذين آلوا الى الجمهورية في فرنسا ، وزرعوا بذرة الحرية للعالم . كانت مقصلتنا شيئا اخر ، مقصلة مستقبل الامة كلها .

لماذا تقترن صورتك يا نهاد بصورة غسان الديك ، وتعيد الى اذني عبارته وهو يمر بنا ذات ليلة هدنة ، " ابي مضى شهيدا وانا ابنه " لم يكن غسان نبيا ولكنه قارب الانبياء ، حين تحققت نبوءته بل حين مات فداءا وشهادة .

صورهم ، كلهم اولئك الذين ضربونا سنوات برعب الجدران ، صورهم اولئك الذين رافقونا او زارونا في عمان لاقامة مؤقتة ، او لزيارة عابرة ، وعادوا الى هناك لتخترقنا رائحة دمهم وحريق شبابهم : زاهي عصام حبيب مازن سعيد ... الى اخر القائمة ، قائمة لا اول لها ولا اخر تتوالد كالافاعي الاسطورية ، كالجراد المر من فلسطين الى لبنان فالى العراق ، قائمة ارحامنا المنذورة للموت واقدارنا المنذورة للمنافي ، تلك الاقدار التي جعلتك تموتين في كندا ... انت الممرضة التي كم اختلطت انفاسها بانفاس رفقاء شهداء او مناضلين تطوعت لانقاذهم ، هل كن في المستشفى الذي احتضن اخر شهقاتك ممرضة تعرف لغتك او تحمل رائحة دمك ؟

قاومت السرطان ربع قرن فهل اخترت الرحيل الان كي لا تشهدي ، ولو من على شاشات التلفزيون عودة الصور القديمة للموت اللبناني ، كي لا تسمعي وانت الجميلة صوتا وغناءا واداءا رعب زعيق الموت الذي ينذر امتنا اليوم ؟

كم كان صوتك الحنون يهدىء من مرارة ليلينا في عز الصعوبات ، فمن اين لنا بصوت يخفف عنا مرارة موتك الان وموتنا الجمعي القادم ؟

مصادر
الدستور (الأردن)