"لو لم تكن الأمم المتحدة قائمة في عالمنا, لكان ضرورياً إنشاؤها". تلك هي الحكمة الأكثر تداولاً وتبادلاً, لأحد رجال الدولة الأوروبيين المعروفين على رغم إصراره على البقاء في الظل. فما الذي يعنيه هذا القائد على وجه التحديد؟ إن كنت قد أصبت فهمه, فإن المقصود أنه قد ولى عهد ذلك النظام الدولي القديم, القائم على الدول الوطنية ذات السيادة. ذلك أن عالمنا المعاصر بات يواجه مخاطر وتحديات جد كبيرة وعاصفة وعابرة للقوميات, بما لا تستطيع مواجهته أي من الدول بمفردها. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى منظمة متعددة القوميات مثل الأمم المتحدة, يمكن بواسطتها التصدي الجماعي الفاعل للمخاطر المشتركة. ومن بين هذه المخاطر الأكثر إلحاحاً, تبرز مشكلة انتشار الأسلحة النووية, التي تهدد الوجود البشري نفسه على الأرض. وهناك خطر الإرهاب الذي تقوم به جماعات خارج إطار الدول والحكومات. تضاف أيضاً انتهاكات حقوق الإنسان, بما فيها المذابح التي تُرتكب ضد المدنيين, مثلما حدث في كل من رواندا والسودان, ويحدث الآن في العراق. إلى ذلك يُضاف خطر التغير المناخي وغيره من المخاطر البيئية, المؤدية إلى موجة المد البحري الزلزالي "تسونامي" في جنوب شرق آسيا، وإعصار "كاترينا" الأخير. وبالطبع هناك مشكلة الفقر المزمنة, التي يقبع ثلث البشرية على إثرها في أقبية البؤس وشظف العيش, وتقضي على حياة الكثيرين, في وقت مبكر من العمر. وبكلمة واحدة يمكن القول إن صورة العالم ليست حسنة ولا مطمئنة, وإن علينا أن نهب لتسليط الاهتمام كله على ما تواجهه البشرية جمعاء.

يذكر أن مدينة نيويورك قد شهدت خلال الفترة الممتدة بين 13-16 سبتمبر الجاري اجتماع ما يزيد على 170 من رؤساء الدول والحكومات, احتفالاً بالذكري الستين لإنشاء الأمم المتحدة, في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وكانت تلك المناسبة, الأكثر احتشاداً من نوعها بقادة العالم, على الإطلاق. وفي ذلك الاجتماع ألقيت الكثير من الخطب, التي استهجنها بعض المعلقين الصحفيين, واصفين إياها بأنها ضرب من النفاق السياسي, لا طائل منه. ولعل الإنجاز الرئيسي الذي تمخض عن الاجتماع, هو تبنيه لوثيقة مؤلفة من 35 صفحة, تمثل اتفاق الحد الأدنى الدولي, على الكيفية التي تتم بها مواجهة المشكلات والمخاطر الدولية المشتركة.

تعليقاً منا على تلك القمة, فإنه لابد لنا من الوقوف برهة على خلفياتها أولاً. فقد طال الحديث عن ضرورة إصلاح الأمم المتحدة نفسها. وتدفقت الآراء من ثلاثة اتجاهات في هذا الصدد. ففي سبتمبر من عام 2003, كان كوفي عنان, الأمين العام للمنظمة, قد شكل لجنة من 16 من الحكماء, باعتبارهم مستشارين له فيما يتصل بالتغييرات الواجب إجراؤها داخل المنظمة. ثم هناك الاقتصادي الأميركي– جيفري ساكس- الذي رفع تقريراً, استعرض فيه "هدف الألفية" الرئيسي, المتمثل في خفض نسبة الفقر العالمي بمقدار النصف, بحلول الخمسين عاماً المقبلة. ومن طرف ثالث قدمت بعض الدول اقتراحات مثيرة للاهتمام, من بينها ذلك الذي قدمه الرئيس الفرنسي جاك شيراك. وينص الاقتراح على فرض رسوم ضريبية على تذاكر السفر الجوي, تتراوح بين دولارين إلى ثلاثة دولارات, يُقدر لعائداتها أن تصل إلى 10 مليارات دولار سنوياً, تنفق على المساعدات الدولية المالية الموجهة للتنمية. كما كان شيراك على قدر كبير من الاهتمام بضرورة أن تؤكد القمة الدولية الأخيرة, الهدف القائل بضرورة تكريس الدول نسبة 0.7 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي – كحد أدنى- للإنفاق على مشروعات التنمية العامة بحلول عام 2015.

وفي ضوء هذه المقترحات, تقدم السيد كوفي عنان بعدد من التوصيات للقمة الدولية التي انعقدت في ربيع العام الجاري, سلط فيها الاهتمام على أربع قضايا رئيسية هي التنمية الاقتصادية, السلام والأمن, وحقوق الإنسان, إلى جانب الاهتمام بتطوير أداء وفاعلية الأمم المتحدة نفسها. ضمن ذلك دعا عنان إلى اتخاذ إجراءات بعيدة المدى, بغية التخفيف من حدة الفقر العالمي, لا سيما في القارة الإفريقية. أما فيما يتعلق بالمأزق العراقي الراهن, فقد دعا عنان إلى تشكيل لجنة دولية, تُناط بها مسؤولية تعزيز الأمن والسلام, مهمتها استنفار وتنسيق الموارد في أوضاع ما بعد الأزمة. كما تطلع عنان إلى اتفاق قادة العالم على تعريف موحد للإرهاب, حتى يصبح ممكناً توفير سند سياسي للنشاط المضاد للإرهاب. إلى ذلك شملت توصيات كوفي عنان, إنشاء مجلس دولي جديد لحقوق الإنسان, على أن يتبع للجمعية العامة للأمم المتحدة. كما تطلع إلى إعطاء المزيد من السلطات والصلاحيات للأمم المتحدة, في إطار التصدي الدولي لظاهرة التغير المناخي. أما فيما يتصل بقضية نزع السلاح وانتشار الأسلحة النووية, فقد طالب الأمين العام بإعطائها ما تستحقه من اهتمام عاجل ملح. ومن رأيه أيضاً أنه تقع على عاتق المجتمع الدولي, مسؤولية التدخل – مع استخدام القوة إن دعت الضرورة- بهدف حماية المجتمعات التي تواجه خطر الإبادة الجماعية.

وفي تلك القمة, كانت قد أنيطت بـ"جان بينج", سفير دولة الجابون لدى الأمم المتحدة, مسؤولية التفاوض مع الدول الأعضاء للتوصل إلى إعلان دولي نهائي متفق عليه, يفترض فيه أن يتضمن أكبر عدد ممكن من الآراء والمقترحات المذكورة. وفي شهر أغسطس المنصرم, تمكن "بينج" من صياغة مسودة, حظيت برضا الأوروبيين, في حين كانت لبعض قادة دول عدم الانحياز تحفظاتهم عليها, وطالبوا بإجراء المزيد من المفاوضات, قبل الصياغة النهائية لمسودة الإعلان. إيجازاً لنقاط الخلاف, فقد كانت دول الجنوب عموماً, أكثر اهتماماً بقضايا حفز التنمية الاقتصادية والاجتماعية, بينما فضلت دول الشمال, أن تطغى على نبرة الإعلان الدولي, قضايا الإرهاب والأمن الدولي.

يذكر أن الولايات المتحدة الأميركية, كانت غائبة في بداية القمة, لأنه لم يكن لها سفير لدى الأمم المتحدة حينئذ. ولكن أطل على المشهد الدولي, قبيل انفضاض القمة, جون بولتون, السفير الأميركي الذي عينه الرئيس بوش لتمثيل بلاده في الأمم المتحدة, رغم كل ما أثاره ذلك التعيين من جدل واسع النطاق لدى الرأي العام الأميركي. المهم أن بولتون تقدم بمقترح إجراء 500 تعديل على نص المسودة التي وضعها بينج, وعبر عن تفضيله بدء المفاوضات مع كافة الأطراف من جديد, على أن تتسع قاعدتها. نتيجة لذلك, فقد بدا مشروع المسودة الأولى, على وشك الانهيار تماماً, في أول سبتمبر الجاري. ولكن الذي حدث هو أن رئيس الجمعية العامة للمنظمة الدولية تمكن من إيجاد مخرج لتلك الأزمة, عن طريق التوصل إلى وثيقة توفيقية, كانت أقرب إلى إعلان المبادئ, منها إلى برنامج عمل واقعي. صحيح أن الوثيقة المذكورة التي أصبحت إعلاناً دولياً للقمة, كانت مخرجاً من الفشل, إلا أنها افتقرت إلى "الأسنان" التي تجعل من المنظمة الدولية, مطلباً ملحاً لا سبيل للعالم الاستغناء عنه, في ظل المخاطر الجمة التي يواجهها الآن.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)