لا يحتاج المرء للقراءة ما بين السطور ليلاحظ أن جل النقاشات العربية الدائرة حول خطة شارون "لفك الارتباط" مع قطاع غزة، كما تسميها المؤسسة الصهيونية، تدور إجمالاً حول محورين أساسيين:

المحور الأول يرتبط بالجدل المحتدم حول ما إذا كانت استراتيجية المقاومة أم استراتيجية المساومة هي صاحبة الفضل بتحقيق إنجاز الانسحاب، مكتملاً كان أم غير مكتمل. وهنا ينقسم الكتاب والمعلقون إلى معسكرٍ يربط ذلك الإنجاز بالمقاومة المسلحة، وأخرَ يربطه بسياسات السلطة الفلسطينية، وثالثٍ ما بين بين يعيد الأمر للعاملين معاً أو لعوامل أخرى ترتبط بالوضعين الداخلي والخارجي "الإسرائيلي" أكثر من ارتباطها بأي شيء أخر..

أما المحور الثاني للحوارات المتعلقة بغزة اليوم فلا يأخذ طابعاً استقطابياً، كالنقاش حول المقاومة مقابل السلطة، بقدر ما يأخذ طابعاً استشرافياً يسكنه التوجس حول آفاق المستقبل: ماذا سيحدث في غزة وفي المنطقة بعد قرار المؤسسة الصهيونية "فك الارتباط" مع غزة؟ ولعل الإجابة الأكثر شمولاً على هذا السؤال كانت تلك التي نشرها د. محمد حمزة من غزة على موقع إسلام أون لاين في 28/ 6/2004، أي قبل الانسحاب بأكثر من عام، حيث يستعرض خمسة سيناريوهات مختلفة لمرحلة ما بعد الانسحاب من غزة هي:

- أن تنجح السلطة الفلسطينية ببسط نفوذها على القطاع بدعم من الطرف الصهيوني واوروبا.

- أن يتم استيعاب حماس في أطر السلطة التي تبقى مسيطرة على الوضع هنا، بدعم وتدخل قوي من النظام المصري.

- أن تتمكن حماس من السيطرة على غزة عبر الانتخابات أو غيرها.

- أن تندلع الحرب الأهلية في القطاع.

- أن توضع غزة تحت الوصاية الدولية.

وفي ورقة للدكتور وليد عبد الحي، وأخرى للدكتور علي محافظة، قدمتا للمنتدى العربي في عمان يوم 17/9/2005، تجتمع احتمالات المستقبل في ثلاثة: 1) أن تحكم السلطة سيطرتها على الوضع في القطاع، 2) أن تسيطر حماس، 3) أن تندلع الحرب الأهلية. وتتطرق ورقة د. محافظة باختصارٍ، فضلاً عن ذلك، للتأثير المحتمل لكل حالة من هذه الحالات على الأردن الرسمي والشعبي...

ونجد على الإنترنت عدداً من التحليلات التي تتناول آفاق التطورات المستقبلية بعد الانسحاب من غزة، ولكن تنبؤاتها لا تخرج إجمالاً عن الخيارات الخمسة أو الثلاثة المطروحة أعلاه، ونجد الجدال حول ماهية الانسحاب، وما إذا كان يعود فضله للبندقية أو لغصن الزيتون، أكثر احتداماً في الصحافة الورقية، وفي الأحاديث الشفهية ما بين أنصار السلطة الفلسطينية وخصومها. وفيما يلي، يقترح كاتب هذه السطور منهجية محددة قد تساعدنا على الاقتراب بصورة أفضل من الإجابة على السؤال الموضوع على بساط البحث حول الآفاق المستقبلية للانسحاب من غزة.

أولاً: كيف نفهم "فك الارتباط" الصهيوني مع القطاع؟
بداية، لا بد من تحديد ما حدث في قطاع غزة حتى الآن كما هو، بعيداً عن أية زوائد أو رغبات أو اسقاطات. فبالنظر لجلاء المستعمرين، خاصة "المدنيين"، من القطاع، والمستعمرات التي تم تفكيكها، فإن ما لا شك فيه هو:

- أن الطابع الاستيطاني الإحلالي للاستعمار الصهيوني في الجزء الأكبر من القطاع، حيث ترتفع الكثافة السكانية الفلسطينية، لم يعد يقوى على الاستمرار، وانطواؤه يمثل اعترافاً فعلياً من قبل المؤسسة الحاكمة الصهيونية باستحالة هضم القطاع، وهذا يمثل، بغض النظر عن أية ملاحظات أخرى، خطوةً تراجعية بالنسبة لمشروعٍ صهيونيٍ قام تاريخياً على الاستعمار الاستيطاني الاحلالي.

- ولكن الطابع العسكري التقليدي للاحتلال، بالقوة العسكرية، بات الشكل الأساسي لاحتلال القطاع، أي أن الكيان الصهيوني بحكم سيطرته الفعلية على الغلاف الجوي والبحري والبري لقطاع غزة، وبحكم قضمه في الماضي لعشرات الكيلومترات المربعة من حدود القطاع، باتت تخلو من الفلسطينيين ولم تعد تحسب من القطاع عند السلطة أو مصر، فإنه ما برح يمارس احتلالاً فعلياً للقطاع من خارجه يشبه الاحتلال الأمريكي للعراق خارج المنطقة الخضراء في بغداد أكثر من شبهه بالاحتلال الفرنسي للجزائر مثلاً، أو الاستعمار اليهودي لبقية فلسطين والجولان..

من ناحية عملية، بالتالي، يمكن اعتبار ما جرى حتى الآن في أغلب غزة (فقط) تغييراً جذرياً في طبيعة الاحتلال، من إحلالي استيطاني على النمط الصهيوني إلى عسكري تقليدي على النمط الأمريكي، خاصة أن خطة "فك الارتباط" الصهيونية تنص على حق قوات الاحتلال بالتدخل عسكرياً في القطاع "عند الضرورة"، وهي مازالت تقبض عليه بعسكرها على أية حال كحجرٍ في مقلاع جوليات.
الجانب الفعلي الأخر في وقائع شبه الانسحاب الصهيوني من غزة، بالإضافة لانتكاسة الشكل التاريخي للاستعمار الصهيوني في فلسطين التاريخية، هو وقوع الخطوة الصهيونية التراجعية عن المشروع التاريخي بعد ثمانٍ وثلاثين عاماً من الجهود المحمومة لاستيطان القطاع.

فسحب "المدنيين اليهود" من القطاع لم يحدث طواعيةً، ولم يحدث عام 1998 بعد انتهاء الفترة الانتقالية التي حددها اتفاق أوسلو مثلاً، ولم يحدث إثر إحدى الاتفاقات الكثيرة المعقودة بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، ولم يحدث في خضم التنسيق الأمني والسياسي من قبل السلطة مع العدو الصهيوني، بل حدث داخل تخوم الحقبة التاريخية للانتفاضة الثانية. بالتحديد، لم يكن الإطار السياسي العام لسحب "المدنيين اليهود" من قطاع غزة سياقاً سياسياً تفاوضياً، بل كان سياقاً مقاوماً، حتى لو تخللته "هدنة" يمكن أن تحفظ ماء الوجه لشارون أمام الرأي العام الصهيوني من الناحية الإعلامية والتكتيكية.

وللتأكيد على النقطة أعلاه، إن كانت بحاجة لتأكيد، نذكر أن السلطة والأنظمة العربية ما فتئت تتوسل شارون يومياً أن يعود لطاولة المفاوضات دون جدوى، ولو عاد، على كل حال، ليس هناك أي مبرر للاعتقاد بأن النتائج ستكون أفضل مما كانت عليه مع أكثر القادة الصهاينة ليونةً من قبله... أو أنها ستخرج عن ميزان القوى وما يريده الطرف الأمريكي-الصهيوني، خاصة في ظل التخلي عن خيار المقاومة على المستوى الرسمي العربي أو الفلسطيني.
وحتى لو افترضنا جدلاً أن محافظة الفصائل المقاومة على "الهدنة" هو الذي أعطى شارون أمام الرأي العام الصهيوني حيزاً تكتيكياً كافياً لتمرير الانسحاب، حتى لا يبدو انسحاباً تحت النيران، فإن صاحب الفضل هنا، والحل والربط، يبقى الفصائل المقاومة. فالعنصر الرئيسي في المعادلة السياسية هنا هو المقاومة، بمكوناتها الشعبية والميدانية.

وكما هو معروف، كان الكيان الصهيوني يعيش أزمةً مستعصية متشعبة في غزة منذ الانتفاضة الأولى، وكان يمكن بالتالي تصور سيناريوهات أخرى لانسحابه من غزة دون غطاء "الهدنة"، وخارج السياق السياسي والعسكري لخطة "فك الارتباط" الصهيونية، تماماً كما جرى في جنوب لبنان. كان يمكن تصور سيناريو يحقق انسحاباً حقيقياً وليس شبه انسحاب، ولو بكلفة فلسطينية أعلى بكثير. ولكن ذلك كان سيتطلب تبني القيادة السياسية للفصائل المقاومة استراتيجيةً أخرى، لا تفترض بالضرورة التنسيق سياسياً مع السلطة الفلسطينية أو النظام المصري.

ثانياً: غزة إلى أين؟
إذن، يمكن وصف شبه الانسحاب الصهيوني من غزة بالكأس نصف الملآن ونصف الفارغ، لأن ما سيجري لاحقاً في غزة وخارجها هو الذي سيحدد في النهاية الطريقة التي يمكن أن نقيم فيها ما يجري على الأرض الآن. المؤسسة الصهيونية تحاول أن تفرغ باقي الكأس، ويفترض أن تحاول قوى المقاومة أن تملأ نصفه الأخر.

فإن تمكنت المؤسسة الصهيونية من فرض شروطها السياسية حول طريقة إدارة القطاع عبر مؤسسات السلطة والضغط المصري، خاصة من ناحية سحب سلاح المقاومة الذي أسهم مع صمود الشعب الفلسطيني بتحقيق هذا النصر غير المكتمل ولكن الحقيقي، وإن تمكنت من تحييد المقاومة في القطاع لتعزيز الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية والقدس والجليل والنقب، ومن إبقاء القطاع عرضةً لحصارٍ خانق يحتمل أن يصبح هو الأداة الأكثر فعالية لتنفيذ مشروع الترانسفير، ومن احتواء المقاومة بطريقة أو بأخرى، ومن كسب الاعتراف العربي والإسلامي بأن "إسرائيل" سارت بجدية "على طريق السلام" وأن الكرة الآن بملعب الفلسطينيين، فإن المؤسسة الصهيونية تكون قد حولت هزيمتها الميدانية الفعلية في غزة إلى نصر سياسي من الدرجة الأولى على مستوى المشروع الصهيوني بأسره، بشكليه التاريخي والسياسي.
بالمقابل، إن تمكنت فصائل المقاومة من جعل غزة قاعدة محررة، ومن دعم صمود الضفة والقدس والنقب والجليل باعتبار القضية الفلسطينية وحدة واحدة لا تتجزأ، ومن العمل لاسترجاع "مزارع شبعا" الفلسطينية على تخوم القطاع التي تبلغ مساحتها الإجمالية 74 كلم مربعاً، على طريق استرجاع كل فلسطين التاريخية، وإن تمكنت من تثبيت حقها بمقاومة الاحتلال الصهيوني لغلاف غزة الجوي والبحري والبري بكل الوسائل الممكنة لمنع الحصار الاقتصادي ودرء خطر الترانسفير، دونما حاجة حتى لاستلام السلطة شكلياً في القطاع، وإذا تمكنت فصائل المقاومة من التعامل مع أي مخطط سياسي لنزع سلاحها أو احتوائها سياسياً أو وضع القطاع تحت ما يسمى الوصاية الدولية تحت عنوان "الحماية الدولية للفلسطينيين"، فإن مسار الأمور سيختلف تماماً، وسيكون الانسحاب الصهيوني من غزة عندها بداية نهاية المشروع الصهيوني فعلاً، ومقدمة لانتصارات أخرى لا حصر لها.

المشكلة، حتى الآن، في كل التحليلات التي تتناول الآفاق المستقبلية الممكنة لما سيؤول عليه الوضع في القطاع وخارجه، وعلى مستوى إقليمي، أنها لا تنطلق من التناقض الرئيسي الذي يحكم الصراع، التناقض ما بين المشروع الصهيوني من جهة، وقوى المقاومة من جهة أخرى. فكل اللاعبين الأساسيين على رقعة الشطرنج مع الطرف الصهيوني، من السلطة الفلسطينية للأنظمة العربية للاتحاد الأوروبي لغيره، لا يستطيعون وضع تصورات وسيناريوهات لمستقبل غزة وبقية فلسطين إلا إذا افتقدت قوى المقاومة المبادرة السياسية والميدانية وركنت لدور ممثل الكومبارس. فالعنصر الأهم بدون منازع في وضع التصورات الواقعية حول الآفاق المستقبلية لما سيحدث في غزة هو ميزان القوى الميداني والسياسي ما بين قوى المقاومة من جهة، والطرف الأمريكي-الصهيوني من جهة أخرى. فتلك هي الحلقة المركزية التي يعتمد عليها لا مصير غزة فحسب، بل مصير كل القضية الفلسطينية، ومنها اللاجئون خارج فلسطين.

هذه الحلقة المركزية الآن بيد القيادات السياسية والميدانية لفصائل المقاومة، فهي تملك من الأوراق أكثر بكثير مما تتصور، ولا يمكن أن يمر أي مشروع أو صيغة بدون إرادتها، ولا تستطيع السلطة أن تنزع سلاح المقاومة، مهما تلقت من دعم رسمي عربي أو دولي، إن لم تقبل المقاومة أن ينزع سلاحها. والسيناريوهان الوحيدان المحتملان لتطور الأحداث، بالتالي، هما: إما استمرار المقاومة أو تصفيتها بشكل أو بأخر ليفتح الباب أمام مختلف أنواع الحلول التي تعطي هذا الطرف أو ذاك حصة أكبر أو أقل.

ولا يهم عندها إن استلمت حماس وغيرها من الفصائل المقاومة السلطة أم لا، فوجودها الشكلي بالسلطة ضمن صيغة شبيهة بالصيغة التركية لا يفيد القضية شيئاً، ووجودها خارج السلطة مع استمرار المقاومة لا يضرها بشيء، بل قد يكون من الأجدى لها أن لا تتورط بمشاكل سلطة محاصرة تستمد مشروعيتها والتزاماتها القانونية من اتفاقيات أوسلو.

الجدار العازل الذي يعلو ثمانية أمتار فقط يمكن أن تتجاوزه بسهولة الصواريخ والقذائف المرشحة لأن تصبح قريباً السلاح الرئيسي في الانتفاضة الثالثة كما يشير بعض المحللين، تماماً كما كانت القنابل البشرية السلاح الرئيسي في الانتفاضة الثانية، والحجارة السلاح الرئيسي في الانتفاضة الأولى. وإذ يكشف توسع الاستيطان وبناء الجدار ضرورة مواجهة المخطط الصهيوني لتعزيز السيطرة على الضفة والقدس والجليل والنقب، فإن قدرة السلطة نفسها على نزع سلاح المقاومة ستقل أكثر بقدر ما تثبت المقاومة نفسها قادرة على استنزاف العدو كما استنزفته في غزة.

مربط الفرس إذن هو الحلبة الميدانية بين الصهاينة والمقاومين، ومن تبقوا خارج تلك الحلبة هم ممثلو الكومبارس الثانويون. وضمن نفس منطق إبقاء الأنظار على الحلقة المركزية للتناقض الرئيسي، فإن العامل الإقليمي الوحيد الذي يلوح بقوة في الأفق، والذي يستحق وحده أن يبقي المقاومون الفلسطينيون أنظارهم مشدودةً إليه، هو تطورات الوضع الميداني في العراق. فبقدر ما يندحر المشروع الأمريكي في العراق، بقدر ما يحاصر في عموم المنطقة العربية، وبقدر ما ينكفئ مشروع التفكيك الصهيوني ويصبح موقفه دفاعياً، ويصبح المقاومون في كل مكان في موقفٍ أقوى.

مصادر
العرب اليوم (عمان)