أصبحت سوريا هي الهدف الثاني في الحملة الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط بعد العراق، حيث تصاعدت موجة الاحتجاجات الأمريكية على نظام بشار الأسد في الفترة القليلة الماضية، وعبرت واشنطن بصراحة عن احتمال اللجوء إلى كل الخيارات المطروحة لـ"تأديب" دمشق على عدم انصياعها للإملاءات الأمريكية وعدم تعاونها في الحرب ضد "الإرهاب"، وأيضا لجعل سوريا عبرة لباقي الدول العربية التي ترفض التطبيع مع إسرائيل، خصوصا بعد "الإنجاز العظيم" الذي يفتخر به أرييل شارون، وهو "الانسحاب من غزة".
لقد صدرت الانتقادات والتحذيرات باللجوء إلى خيار القوة ضد سوريا من قبل عدد كبير من المسؤولين الأمريكيين، إذ لا يكاد يمر أي لقاء محلي أو دولي للرئيس جورج والكر بوش إلا ويدين ويتوعد النظام السوري ويتهمه بعدم الانخراط في مسلسل السلام، وبطئه في التعاون من أجل محاربة "الإرهاب" بالعراق بشهادة قادة النظام العراقي الجديد. أما السفير الأمريكي في العراق وصديق بوش زلماي خليل زاده فقد أعلن صراحة "نفاد صبر الولايات المتحدة تجاه دمشق"، وقال إن "جميع الخيارات مطروحة للتعامل معها بما في ذلك الخيار العسكري بسبب سياستها تجاه العراق وعدم قيامها بما يكفي لمنع تسلل الإرهابيين منها إلى الأراضي العراقية"، أما كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية فاتهمت سوريا بعدم الالتزام بمطالب المجتمع الدولي بشأن لبنان.
انخرط جميع مسؤولي الإدارة الأمريكية في الهجوم على سوريا، مرة بدعوى عدم التعاون لمنع تسلل الإرهابيين إلى داخل العراق، ومرة أخرى بتوجيه الاتهام للنظام السوري بتدخله في الشؤون الداخلية للبنان وعدم تطبيقه للقرارات الدولية القاضية بسحب جميع قواتها بما في ذلك عناصر الاستخبارات السورية التي كانت تتواجد بكثافة داخل لبنان. وفي خضم هذه المعركة الإعلامية والدبلوماسية التي تختل فيها المعادلة لصالح الأمريكيين يغيب الموقف العربي والقرار العربي، وتلتزم الجامعة العربية خيار الصمت خوفا من "غضب" أمريكا.
والواقع أن كل التصريحات والتحركات الدبلوماسية ليست سوى محاولة لإخفاء عدة حقائق بشأن تطورات الوضع بالمنطقة، أولها أن القوات الأمريكية وحلفاؤها يواجهون تحديا كبيرا بعد تزايد الهجمات المسلحة واتساع نطاقها إلى جميع الأراضي العراقية، وبالتالي فإن الولايات المتحدة تسعى إلى التلويح بالخيار العسكري ضد العراق للتخفيف من الضغط على قواتها داخل العراق، وجر الشريك الإقليمي الأساسي لسوريا في المنطقة وهي إيران إلى المواجهة، بعدما تعذر على الأمريكيين ربح رهان الدبلوماسية الخاسرة فيما يخص ملف إيران النووي، وثانيا ، العمل على توظيف تقرير ميليس لتوجيه أصابع الاتهام إلى القيادة السورية بالتورط في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وثالثا، يحتمل أن يكون الهجوم الدبلوماسي الأمريكي أحد الأساليب التي تلجأ إليها واشنطن للضغط على سوريا وحملها على الانخراط في مسلسل التغيير بالمنطقة استجابة لمطالب الأمريكيين بمنع تسلل المسلحين العرب إلى العراق، ورابعا، تؤكد هذه الاتهامات المتصاعدة وجود تيارين داخل الإدارة الأمريكية، واحد يسعى إلى فتح قنوات الحوار والإمساك بـ"شعرة معاوية"، والثاني يرفض أي فرصة للحوار ويعتبر أن سوريا من الدول المارقة التي لا تستحق سوى العقاب والإذلال والحصار الاقتصادي المتبوع طبعا بالهجوم العسكري.
ومع كل هذا فإن القيادة السورية لا تأبه بهذه التهديدات، بل إنها تتمادى ضد الإرادة الأمريكية في دعم ومساندة المنظمات الفلسطينية، الشيء الذي أكده اللقاء الذي جمع بين الرئيس بشار الأسد وباقي ممثلي الفصائل الفلسطينية، حيث حثهم على مواصلة النضال في سبيل إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وهو ما يخالف التوجيهات الأمريكية التي تدعو إلى طرد وحل جميع مكاتب المنظمات الفلسطينية بسوريا، وفي مقدمتها حركة حماس والجهاد الإسلامي وحركة فتح والمنظمة الشعبية لتحرير فلسطين.
يمكن القول إن غياب الرئيس بشار الأسد عن القمة العالمية التي التأمت بمناسبة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بنيويورك، وتخفيف الحكومة السورية من لهجتها إزاء الوضع في العراق، ودعوة المسؤولين السوريين الولايات المتحدة إلى الحوار، دليل على وجود مخاوف حقيقية تجاه ما يحمله المستقبل من تدخل عسكري وسياسي أمريكي في المنطقة، والذي لن يتوقف طبعا عند سوريا بل سيمتد إلى إيران وباقي دول المنطقة.
والخلاصة أن ما يقع حاليا في العراق سينعكس بدون شك على الوضع في سوريا وفي باقي دول المنطقة، كما أنه سيدفع إلى خيارين، إما التزام خيار الحياد والانكباب على معالجة الوضع الداخلي وتفادي الانخراط في الحملة الأمريكية واتقاء شرها، أو القبول بشروط اللعبة السياسية والاعتراف بدولة إسرائيل والمساهمة في برامج إعادة الإعمار بالعراق والتصدي للحركات المناهضة للوجود الأمريكي في بغداد وتسخير الطاقات والموارد العربية لتكريس الاحتلال الأمريكي تحت مسميات "الحرية" و"الديمقراطية" و"الحكم الرشيد". إن القناة الوحيدة لإنقاذ ما تبقى من ماء الوجه العربي هي عقد اجتماع عربي طارئ لتدارس التهديدات الأمريكية ضد سوريا وأخذها على محمل الجد، وممارسة الضغط على واشنطن لفتح حوار جدي مع السوريين بمشاركة الجامعة العربية، و وقف أسلوب التهديد، والجنوح إلى خيار التعاون السلمي والتعايش الدائم في منطقة الشرق الأوسط.
مقالات هذا المؤلف
