لم يكن في استطاعة الرئيسين اميل لحود وفؤاد السنيورة اقناع أحد في لبنان وخارجه بأن "مشهدهما" كان طبيعيا في نيويورك، وإن حاولا ما أمكن التخفيف من حدة هذا المشهد وعدم نشر الغسيل السياسي الداخلي على سطوح فنادقها، وذلك عبر تصريحات متبادلة توحي ان ما يجري طبيعي وأن كل واحد منهما يقوم "بشغله". كان من غير الطبيعي على الاطلاق وجود رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء في مبنى واحد وفي الوقت نفسه في مبنى الامم المتحدة، دون ان يلتقيا وهما على بعد أمتار واحدهما عن الآخر! وفي الوقت الذي كان رئيس الجمهورية يلقي خطابا، لكثرة ما مُهد له ولأهمية التوجه الى نيويورك اعتقد كثيرون انه سيكون "تاريخيا" - ولاحقا وصفه رئيس سابق للحكومة بالعادي جدا – كان رئيس مجلس الوزراء يشارك في اجتماع ضم وزراء كبريات دول العالم والامين العام للأمم المتحدة تحت عنوان التمهيد والتحضير لمؤتمر لدعم لبنان ومساعدته، وقد استطاع "انتزاع" قرار بعقد المؤتمر في بيروت قبل نهاية السنة بدءا من أواخر تشرين الثاني المقبل. وكان رئيس الجمهورية أول من أشاد بالاجتماع المذكور وبأهميته. وبالفعل كان مجرد انعقاده انجازا، اذ لم يكن سهلا ان يجتمع وزراء خارجية اميركا وفرنسا وبريطانيا والسعودية ومصر والامين العام للأمم المتحدة والمسؤولون في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تحت عنوان دعم لبنان. لم يتأخر الرئيس فؤاد السنيورة في الرد على كلام تخوف من مساعدات مشروطة. اذا كانت الشروط اصلاحات اقتصادية وسياسية فلا مشكلة، وأي شرط يفترض ألا يتناقض مع البيان الوزاري للحكومة. بدا التخوف من "شروط" مشروعا بعد الكلام السياسي الكثير الذي قالته وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس والذي لم يوفر سوريا. وهذا الكلام ربما كان وراء تخوف البعض من أن يكون الاجتماع سياسيا لا اقتصادياً، وقد لاحظ مرجع سياسي انه "كان من المفترض حضور وزير الخزانة الاميركية لا وزيرة الخارجية، وقد تركز خطابها على القرار 1559، مما جعل المؤتمر يبدو سياسيا بامتياز". ولفت المرجع نفسه الى انه "للمرة الاولى في تاريخ لبنان تعرض علينا مساعدات قبل ان نطلبها، وأن اميركا وفرنسا تحدثتا عن مساعدة لبنان ودعمه قبل وصول السنيورة الى نيويورك". لئن يكن الامر "مؤشرا جيدا" في نظر القريبين من الحكومة، فان النتائج المرتقبة من المؤتمر المقبل في بيروت وعلى المستوى نفسه ستحمل الجواب عما اذا كان الهدف سياسيا أم اقتصاديا. ولعل كلام رئيس الجمهورية في طريق العودة من نيويورك على ان "لبنان مقبل على اصلاحات سياسية واقتصادية ومالية حالت الظروف السابقة دون اتمامها" في سياق حديثه عن "التطلع بكثير من الامل الى المؤتمر" الذي رأى أنه "يترجم ارادة المجتمع الدولي في تمكين لبنان من مواجهة الاستحقاقات التي تنتظره في كل المجالات". وأن "المواقف التي أعلنت في المؤتمر تؤكد هذه الحقيقة" فان أبسط سؤال يمكن ان يطرح هو: ما هي الظروف السابقة التي حالت دون الاصلاحات السياسية والاقتصادية والمالية؟ وما هي "الاستحقاقات التي تنتظر لبنان في كل المجالات"؟ سيبقى الحديث عن تخوف من تكرار تجربة التعاطي مع نتائج مؤتمري باريس – 1 وباريس – 2 والاصلاحات المطلوبة مشروعا في غياب جواب صريح وواضح عن الاسباب الموجبة لـ"الظروف السابقة التي حالت دون الاصلاحات المطلوبة". رحم الله رفيق الحريري...

في أي حال، لم يكن حديث الرئيس لحود عن "التكامل" بين التحرك السياسي الذي "قاده" في أروقة الامم المتحدة واللقاءات التي "عقدها" الرئيس السنيورة، ليقنع "العالم" بالاسباب "الموجبة" التي حالت دون لقائهما في نيويورك رغم "التكامل"الذي كاد أن يبلغ حد الانسجام! كان المشهد "مؤثرا" بمقدار ما عكس حقيقة وواقعا سياسيا أكثر تاثيرا...

ومن المفيد بل من الضروري في هذا السياق الاجابة عن سؤال طرحه جان عبيد حول "الحكمة" من لقاء رئيس الجمهورية مع الامين العام للأمم المتحدة "وحيدا دون أي عضو من الوفد الوزاري والديبلوماسي الذي ترأسه؟" جلوس رئيس الجمهورية وحيدا في "أعالي" مبنى الامم المتحدة في الطبقة الثامنة والثلاثين، استوقف ايضا رئيس مجلس النواب نبيه بري. هل صحيح انه كان شرط كوفي أنان الذي أراد ان يبلغ الى لحود "شيئا ما" لا يريد ان يسمعه أحد غيره؟ على كل حال، لكثرة ما قاله رئيس الجمهورية عن أهمية رحلة نيويورك، فمن حق اللبنانيين اكثر من أي وقت مضى اعطاؤهم "جردة" بما تم انجازه، من خارج اللغة الخشبية لـ"المصادر" وعبارات على غرار ان الرحلة "عززت الحضور اللبناني في المحافل الاقليمية والدولية" رغم الظروف التي سبقتها وواكبتها ولم تكن لمصلحة رئيس الجمهورية الذي أحيط بما يشبه الحصار والمقاطعة من العالم. ولعل من المفيد استذكار اللقاءات التي عقدها تجنباً لأي ظن بوجود مبالغة في هذا الصدد.

من الـ"مونتي ـردي" الى الـ"مونتي روزا"...

وسط هذه الاجواء، كان المشهد مختلفاً في المقلب الآخر. رئيس اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري يبدأ تحقيقاته في دمشق، وقد خصص له مقر اسمه "مونتي روزا" على مقربة من الحدود اللبنانية – السورية. وبازاء التكتم الشديد من السلطات السورية عن هذه التحقيقات، من المفترض ان يكون ميليس قد بدأ الاستماع الى افادات من طلب الاستماع اليهم من السوريين، وهم بحسب المعلومات المتعددة المصدر مسؤولو المخابرات السورية السابقون في لبنان وأبرزهم وزير الداخلية اللواء غازي كنعان (1984 – 2002) والعميد رستم غزالي (2002 – 2005) ومعاوناه في بيروت العميدان محمد خلوف وجامع جامع. ولم تؤكد المصادر السورية معلومات اشارت الى احتمال التحقيق مع شهود آخرين. وليس سراً ان اقامة ديتليف ميليس في "مونتي روزا" السورية، بعيداً من "مونتي ـردي" اللبنانية، تشكل محطة مفصلية في مسار التحقيق الدولي والتمهيد للتقرير النهائي، انطلاقاً من علاقة شبه يومية بين ضباط المخابرات السوريين قبل الانسحاب من لبنان في نيسان الماضي، والرؤساء السابقين للاجهزة الامنية قبل توقيفهم. يجري ميليس وفريقه تحقيقاتهم في دمشق على ايقاع حملة ضغط على سوريا تقودها الولايات المتحدة الاميركية، ربما زادت من التوجس السوري والتخوف من "تسييس" عمل اللجنة الدولية. ولم يوفق كثيرون في التعبير عن هذا التوجس، ولا سيما عندما يقول بعضهم ما مفاده، عن قصد أو عن غير قصد، ان اللجنة محايدة اذا لم تتّهم و"مسيّسة" اذا وجهت تهمة. لعل القرار السوري تسهيل عملة اللجنة في الاستماع "الى من تشاء في دمشق" وضع حداً لتساؤلات عن الاسباب الكامنة وراء الحديث سلفاً عن "تسييس" من جهة، ولاتهامات كثيرة وجهت الى دمشق من جهة أخرى، قبل انجاز التحقيق والتقرير النهائي للجنة الدولية.

مصادر
النهار (لبنان)