عقب خطاب الرئيس بوش الأخير في نيوأورليانز، حملت العديد من الصحف الأميركية عنوانا رئيسياً يكاد يكون واحداً من حيث الجوهر هو:"بوش يستبعد إمكانية رفع الضرائب لتوفير الأموال اللازمة لإغاثة منكوبي خليج المكسيك".

فالرئيس بوش على ما يبدو يخطط للاعتماد على "إجراء خفض في الإنفاق"، بدلاً من رفع الضرائب لتوفير الأموال التي سيحتاجها لإعادة بناء مدينة نيوأورليانز التي دمرها الإعصار. نعم، هذا ما ينويه الرئيس، وإذا ما صدقتم ذلك، فإنه يسرني أن أخبركم أن لديّ بعض الممتلكات على شاطئ خليج المكسيك وتحديدا في منطقة "بيولوكسي" التي أرغب في بيعها، فهل منكم من لديه استعداد للشراء؟ قد يفهم البعض أن الرسالة الكامنة وراء كل تلك القصص هي أن فريق بوش لا يرى أي سبب يدعوه لتغيير مساره المعتاد من أجل التعامل مع كارثة إعصار "كاترينا".

واسمحوا لي أن أختلف معكم في هذا الاستنتاج. فأنا أرى أن "كاترينا" قد حرمت إدارة بوش من الطاقة التي شكلت القوة الدافعة لها خلال السنوات الأربع المنصرمة وهي: أحداث 11 سبتمبر والهالة الرئاسية التي ترافقت مع تلك الأحداث. وقصدي من ذلك القول إن أحداث الحادي عشر من سبتمبر جعلت الشعب ووسائل الإعلام في أميركا يوجهان اهتمامهما للإدارة، التي استغلت ذلك الاهتمام لأقصى درجة، كي تقوم بدفع أجندة محافظة غير متعاطفة مع سياسة تخفيض الضرائب والإنفاق غير المقيد، وهي أجندة ما كان يمكن أن يتم انتخاب تلك الإدارة على أساسها، لو كان رئيس هذه الإدارة قد طرحها في برنامجه الانتخابي عام 2000.

وإذا كان بوش يريد أن يصنع شيئاً من فترة ولايته الثانية، فإنه لابد أن يقوم بإجراء تحول تام في مساره على غرار ذلك الذي أجراه نيكسون عندما اتجه للصين في سبعينيات القرن الماضي. أقصد من ذلك القول إنه يتعين على بوش أن يقوم بإعادة صياغة السجال الدائر في الولايات المتحدة حالياً، وإعادة تحديد أولويات رئاسته.

وعلى ما يبدو أن بوش يعتقد أنه بإنفاق مليارات الدولارات على نيوأورليانز، سيكون قادراً على استرجاع هالته الرئاسية مجدداً. سيكون الرئيس مخطئا لو اعتقد ذلك. فالاكتفاء بإنفاق المزيد من الأموال المقترضة في نيوأورليانز، لا يمثل قيادة على الإطلاق. ولذلك، فإن بوش في حاجة إلى صياغة أجندة جديدة لبناء جميع مدننا، وتقوية بنية الأمة بشكل عام. والشيء الذي يجب أن يمثل صلب سياسة التجديد الأميركية واضح وضوح الشمس وهو: جعل السعي إلى تحقيق الاستقلال في الطاقة مشروع جيلنا الحالي تماماً مثلما كان الصعود للقمر مشروع جيل ستينيات القرن الماضي.

والحقيقة أن الإدارة كان يجب أن تقوم بذلك صبيحة الثاني عشر من سبتمبر، لأن الأمة الأميركية كانت وقتها متأهبة لذلك، ولكن الرئيس استثقل المهمة وتردد. ثم جاء إعصار كاترينا- "11 سبتمبر الطبيعي"- كي يمنحه فرصة نادرة لإعادة المحاولة مجددا. تخيلوا معي- وأنا هنا أعرف أن ذلك من قبيل المبالغة- أن الرئيس قد أعلن غدا أنه يريد فرض زيادة ضريبية قدرها 50 سنتا على الجالون الواحد من الجازولين، وأنه سيطلق على هذه الزيادة الضريبية مسمى"ضريبة تجديد أميركا"، وأن هذه الضريبة سيتم استخدامها لإعادة بناء نيوأورليانز، وتسديد قيمة العجز، وتمويل الخفض الضريبي للأميركيين الذين سيقومون بتحويل سيارتهم إلى استخدام تقنية الوقود المُهجن، أو إلى استخدام أنواع الوقود البيولوجي Biofuels، وتمويل مشروع مانهاتن لتطوير بدائل للوقود من أجل تحقيق الاستقلال في الطاقة، وتوفير الدعم المالي لمنظومات الانتقال الجماعي في مدننا الرئيسية، كي نتجنب ما حدث في نيوأورليانز ولويزيانا عندما أدى عدم توافر مثل هذه الوسائل إلى مصرع الكثيرين الذين عجزوا عن الانتقال من أماكنهم عندما ضرب الطوفان الولايتين.

تخيلوا أيضا أن بوش قد قام إلى جانب ذلك، بدعوة الشباب الأميركي للالتحاق بأقسام العلوم والرياضيات والهندسة، من أجل تحقيق هدفنا القومي الكبير بأن نكون أكثر دول كوكب الأرض اخضراراً، ومن أجل مساعدتنا على تحقيق الاستقلال عن بعض من أسوأ الأنظمة في العالم، التي نجد أنفسنا مضطرين للتعامل معها من أجل تأمين احتياجاتنا من النفط، وللمساعدة على التخفيف من حدة ظاهرة الإحماء الحراري التي تتسبب في تسخين مياه المحيطات وتجعل الأعاصير التي تهاجمنا أكثر قوة وشراسة، والذي يجعل أراضينا المنخفضة أكثر تعرضا للمخاطر. إن الشباب الأميركيين يتحرقون شوقا لاختبار قدراتهم على التحدي من أجل تحقيق أهداف أعظم، كانت غائبة تماما خلال عهد الرئاسة الحالية.

إن الأميركيين سيغيرون عاداتهم طويلة الأمد في استهلاك الطاقة، والشركات الأميركية ستقوم بتطوير منتجات خضراء، إذا ما تيقنت جميعا أن أسعار الجازولين لن تعود إلى الانخفاض مرة ثانية. إن فرض ضريبة على الجازولين (أظهر الأميركيون بالفعل أنهم سيتحملون الزيادة في الأسعار)، والتنظيم الأكثر صرامة في مجال الطاقة، سوف يجبران الشركات الأميركية على الابتكار والتجديد فيما ستصبح واحدة من أهم الصناعات العالمية في القرن الحادي والعشرين وهي:التقنيات الخضراء.

إن قيام فريق بوش بتدليل شركات السيارات والشركات الصناعية لدينا، خصوصاً ما يتعلق بالمعايير البيئية ومعايير استهلاك الوقود في السيارات، فإن كل ما سيحققه هذا الفريق هو أنه سيضمن أن تلك الشركات ستتحول إلى ديناصورات، وأن الشركات الصينية واليابانية والهندية سوف تتبوأ مركز الصدارة في التقنيات الخضراء، لأنها مضطرة لذلك بينما شركاتنا غير مضطرة.

تأملوا في مغزى ما قاله "جيف إيملت" المدير العام لشركة "جنرال إليكتريك" مؤخرا: "يجب علينا أن نسعى جاهدين إلى تحسين كفاءة ممارساتنا البيئية وأساليبنا في استخدام الطاقة على المستوى الوطني. إن أميركا هي أكبر مستهلك للطاقة في العالم، بيد أنها ليست الدولة الأولى في هذا العالم في التقدم التقني. فأوروبا هي القوة الرئيسية اليوم في مجال الابتكار البيئي، والحكومات الأوروبية قامت بتشجيع شركاتها على الاستثمار في - وإنتاج- التقنيات المعتمدة على الطاقة النظيفة. والسياسات الحكومية الأوروبية التي تشجع ذلك من خلال الإعانات والدعم وغيرها من أنواع الحوافز، تمنح الشركات الأوروبية ميزة إضافية تتفوق بها علينا. وفي حين أن أوروبا كانت هي القوة الدافعة وراء الابتكار والتجديد في مجال تلك التقنيات، فإن الصين تعد بأن تكون هي السوق الرئيسي لها".

لو قمنا بوضع هدف تحقيق الاستقلال في الطاقة نصب أعيننا، بالإضافة طبعا إلى فرض ضريبة على الجازولين، فإن ذلك كفيل بحل الكثير من المشكلات التي تواجهنا في الوقت الراهن، بدءا من العجز المالي إلى التغير المناخي إلى الأمن القومي. والأميركيون لن يترددوا في الدفع لو عرفوا أن تلك الأموال ستستخدم في تجديد أميركا، وليس تجديد إيران، أو إعادة بناء نيوأورليانز وحدها. وإذا ما تحول بوش من نمط رجل النفط التكساسي إلى نمط رجل الاستقلال في مجال الطاقة الآن، فإن ذلك سوف يثير النشوة في الرؤوس، ويجعل من فترة رئاسته فترة ذات أهمية حقا.

ماذا تقولون؟ هل تقولون إن ذلك مستحيل. قد تكونون على حق، ولكن ما لم يقم بوش بعمل تغيير كامل في الاتجاه مشابه لذلك الذي فعله نيكسون عندما اتجه للصين، فإنه لن يكون أمامه في تلك الحالة سوى الاتجاه نحو المجهول.

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)