عندما توفي الملك حسين (7 شباط 1999) صدرت عن دمشق اخبار شبه رسمية تفيد ان صحة الرئيس حافظ الاسد لا تسمح له بالمشاركة في الجنازة.

وانسجاما مع سياسة وحدة "المسارين" اعتذر الرئيس اميل لحود هو ايضا عن الحضور لمشاركة الملوك والرؤساء في تشييع العاهل الاردني خوفا من اغضاب دمشق. ولكنه فوجىء صباح اليوم التالي بسفر الرئيس الاسد الى عمان يرافقه وفد كبير. ولما استوضح الرئيس اللبناني عن اسباب التغيير، قيل له ان الحدث الاستثنائي قضى بأن يتحمل الاسد مشاق المأتم الحاشد في سبيل لقاء رؤساء يصعب لقاؤهم خارج هذه المناسبة.

وحاول الرئيس لحود بعد يومين ان يعوض عن تقصيره تجاه الاسرة الهاشمية بزيارة خاصة لم تكن موضع ترحيب لأنها جاءت في غير زمانها، ولأن سبب التغيب لم يكن مقنعاً.

ودخلت تلك الواقعة في ذاكرة اللبنانيين كشهادة على ظلم التبعية التي تحكّمت بالعلاقات السورية – اللبنانية بدءا بسيد القصر وانتهاء بأقل الموظفين اللبنانيين شأنا. صحيح ان دمشق لم تطلب من الرئيسين الياس الهراوي واميل لحود او من رؤساء الحكومات التعامل معها بذهنية الوصاية والرعاية... ولكن الصحيح ايضا ان سلوك ممثليها في عنجر كان يفرض على المسؤولين اللبنانيين مداراة حساسيتها المفرطة خوفا من التعرض للتأنيب او الانتقام. وهكذا اخذت تلك الوصاية التي وفرها اتفاق الطائف، طابع التبعية تماما كما كانت موسكو بالنسبة لوكلائها رؤساء المنظومة الاشتراكية التابعة لمركزيتها.

في هذا المناخ الصارم كان هامش التحرك السياسي يضيق ويتسع حسب اجتهاد الرئيسين اللذين توليا الحكم بعد اعلان اتفاق الطائف. وكثيرا ما كان الهراوي "يسوقها زحلاوية" ويقفز فوق الخطوط الحمر قبل ان يعاتبه الرئيس الاسد ويذكّره بأنه يتجاوز اصول اللعبة. وليس ادل على سياسة الخوف التي عاشها الحكم في لبنان من الارباك الذي سبّبه طلب وزيرة الخارجية الاميركية مادلين اولبرايت اثناء زيارتها قصر بعبدا (15 ايلول 1997). فقد تمنت على احد الرئيسين الهراوي او الحريري، مرافقتها الى السطح كي ترى بيروت في صورة بانورامية شاملة. وحاول كل من الرئيسين احالة الطلب على الآخر لاقتناعهما بأن الانفراد بأي مسؤول اميركي سيثير شكوك دمشق. لهذا اكتفى الرئيسان بعرض سريع لمواقع بيروت قدّماه من فوق شرفة القصر بحضور شهود كثر.

وقد غالى الرئيس لحود في التزامه اصول سياسة التبعية، الى حد انه حرم لبنان من فرص لقاء زعماء العالم، مكتفيا بزيارات دول لم تبلغ بعد مستوى دول العالم الثالث. وحدث اثناء زيارة لروسيا البيضاء ان اصدرت وزارة الاعلام اللبنانية مسلسلات اشادة وتقدير بالرئيس الكسندر لوكاشينكو و"بنظامه الديموقراطي". وسقط في حينه بهذا "المطب" النائب السابق لرئيس مجلس الوزراء عصام فارس اذ وقّع باسم لبنان اتفاقاً ثقافيا تربويا مع وزير التعليم في ذلك البلد المهمل.

وظهر الاتفاق كمادة انتقاد في الصحف الاوروبية والاميركية التي قالت ساخرة ان لبنان يشتري الثقافة من آخر ستاليني، وان لوكاشينكو اكتشف في زيارة لحود فرصة للخروج من عزلتيه الاقليمية والدولية. والمؤسف ان خطاب رئيس روسيا البيضاء امام الجمعية العمومية الاسبوع الماضي اقتصر على دفاعه عن صدام حسين وعلى افتقاده نظام الاتحاد السوفياتي!

يدافع انصار الرئيس لحود عن موقفه المحاذر بالقول انه حريص على ممارسة سياسة غير استفزازية تجاه سوريا، حتى لو اضطره الامر للتنازل عن مكاسبه الشخصية. مثال ذلك انه تردد كثيرا قبل الغاء زيارته لجامعة "هارفرد" حيث تقرر اقامة احتفال له بمناسبة تقديمه منحة جامعية، تحمل اسمه في مؤسسة جون كينيدي. ومع ان الزيارة ثقافية بحتة، الا انه آثر تأجيلها حفاظا على علاقات الود مع دمشق. كذلك الغى زيارته للندن ثلاث مرات مع ان وزارة الدفاع البريطانية قررت ان تمنحه وسام تقدير بسبب انتسابه في الماضي الى الكلية البحرية.

مع اعلان افتتاح القمة العالمية في الامم المتحدة، قرر الرئيس اميل لحود المشاركة على غير عادته. وطلب من رئيس الوزراء فؤاد السنيورة مرافقته الى نيويورك لأن ذلك يعزز فكرة التفاهم الداخلي. وابدى السنيورة تحفظه عن المشاركة في الزيارة لأكثر من سبب، متمنيا على الرئيس لحود الا يحضر حفاظا على موقع الرئاسة. ولما استوضح لحود في مجلس الوزراء عن تلك الاسباب، قال السنيورة ان ادراة جورج بوش ستعامله كعضو غير مرغوب فيه، وتبعده عن اللقاءات الجانبية مع كبار زعماء العالم. كما تصور ايضا ان المجتمع الدولي لم يرفع عنه غطاء المسؤولية المعنوية، وان هذا "السيف" سيظل مصلتا فوق قصر بعبدا، الى حين صدور قرار رئيس لجنة التحقيق ديتليف ميليس، او الى حين تبرئة مدراء العهد الاربعة او تجريمهم.

حول هذا الموقف قال لحود انه سيلتقي الامين العام كوفي انان، وانه حريص على ابلاغه موافقته على تطبيق ما تبقى من بنود القرار 1559 اي البند المتعلق بنزع اسلحة "حزب الله" والمخيمات الفلسطينية. وبالفعل، ابرز لحود هذه الناحية في لقائه الاول مع انان من ثلاث سنوات. علما بأنه لم يصطحب معه اي شاهد على هذا الكلام حتى وزير الخارجية فوزي صلوخ. وهو يستند في دفاعه عن موقفه الى المدخل الذي استهل به كلمته كالقول: "نحن نؤمن بأولوية دور الامم المتحدة ومركزيته في صيانة الامن والسلم الدوليين، كونها المنظمة الاكثر تعبيرا عن رغبة دولنا بالوحدة والتعاون والتضامن".

ولكن الكلمة المجتزأة التي اعلنها الرئيس لحود باسم لبنان لم ترض رئيس الوزراء فؤاد السنيورة ولا حليفيه رئيس كتلة "المستقبل" سعد الحريري، ورئيس "اللقاء النيابي الديموقراطي" وليد جنبلاط. ولكنها حازت على رضا "حزب الله" الذي امتدح خطاب لحود واثنى على موقفه العاقل، وخصوصا عندما شرح لكوفي انان الشق المتعلق بسحب سلاح الحزب. قال: "ان ثمة بنودا في القرار 1559 تحتاج الى حوار وطني واسع يأخذ في الاعتبار خصوصية الواقع اللبناني ومصلحته العليا". ومثل هذا التفسير قدمه الرئيس أمين الجميل عقب زيارته لامين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله. قال ان سلاح المقاومة هو موضوع حواري، ومن المفترض ايجاد توافق حول هذه النقطة المتعلقة بمصلحة لبنان.

يجمع المراقبون على القول بان موقف "حزب الله" من الاستحقاق الرئاسي دعّم التيار المطالب ببقاء لحود في الحكم الى حين صدور نتائج التحقيق الدولي. ومن المؤكد ان هذه المساندة العلنية جاءت وليدة التعاون الوثيق الذي أبداه لحود مع المقاومة منذ كان قائداً للجيش. وقد استمر على هذا الخط بالرغم من التهديد المبطن الذي وجهته اليه ادارة بوش عبر الوزير السابق كولن باول وجميع المسؤولين الآخرين.

ويرى "حزب الله" ان خسارته من جراء ابعاد اميل لحود لا تعادلها أي خسارة اخرى على مستوى الزعامات اللبنانية. لذلك طلب من وليد جنبلاط أن يتروّى في حملته ضد الرئيس لأنه ليس من المصلحة اسقاطه بواسطة القوى الاسلامية لئلا تزداد عوامل الفرقة والفتنة في البلاد. وعندما ذُكر ان احد زعماء المسيحيين عرض على البطريرك صفير فكرة تنحية الرئيس لحود بواسطة القوى المسيحية في حال ثبت ضلوع مدراء الامن في عملية اغتيال الحريري، علق الدكتور سليم الحص برفض هذا المنطق، معتبراً انه كفر بحق اتفاق الطائف. وقال ايضاً: ليس رئيس الجمهورية ممثلا للمسيحيين وحدهم. هذا كفر باتفاق الطائف الذي قضى بالعمل على تجاوز الحال الطائفية على مراحل مهما طال الزمن.

المبررات التي قدمها الرئيس لحود لم تقنع كتلة "المستقبل" بأن مشاركته في القمة العالمية اتخذت في ضوء المصلحة اللبنانية فقط. ويرى اعضاؤها انه اخطأ في التوقعات عندما ظن ان صديقه الدكتور بشار الاسد سيكون أول رئيس سوري يشارك في مؤتمرات الامم المتحدة منذ اكثر من اربعين سنة. ولكن غيابه لم يلغ من الحساب احتمال توظيف العلاقات الدولية المتواضعة لتقوية مركزه المحلي والاقليمي. خصوصا انه فقد بانسحاب القوات السورية من لبنان الثقل السياسي المطلوب لموازنة قوة رئيس الوزراء الذي اعطاه اتفاق الطائف صلاحية وضع سياسة الدولة وحق تطبيقها. علماً بأن السنيورة لا يشكل بالنسبة الى نفوذ رئاسة الجمهورية، التحدي الذي كان يشكله رفيق الحريري، محلياً واقليمياً ودولياً.

ومع ان لحود يثني على اداء السنيورة ويتمنى تعاونه، إلا ان علاقتهما ستظل محكومة بقرار غالبية يمثلها التحالف الاستراتيجي بين سعد الحريري ووليد جنبلاط. لهذا بدأت حملة تطويق السنيورة بعد زيارته للولايات المتحدة واجتماعه بعدد من المسؤولين في مقدمهم وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس. وترمي هذه الحملة الهادئة الى زرع الشكوك حول مهمة رئيس الوزراء الذي اعلن انه على استعداد لتنظيم آلية الحوار بين اللبنانيين للتوصل الى اقتناعات مشتركة. ومع انه حذر من خسارة الوحدة الوطنية اذا لم يعالج موضوع سحب الاسلحة بروية وتفاهم، إلا أن مجرد تعاون الادارة الاميركية معه ورفض التعاون مع اميل لحود، وضعه في زاوية محرجة تجاه الذين يختلفون مع الولايات المتحدة حول كل شيء. وهذا ما دفع بعض الصحف الى الاشادة بالتعاون الذي قام بين لحود ونجيب ميقاتي في الحكومة السابقة. وربما ظهرت هذه الاشادة الآن كرسالة للغالبية البرلمانية المطالبة بتنحية لحود، مع تحذير مبطن بأن ذهاب الاول يستدعي ذهاب الثاني قبله. وعليه يمكن الاستنتاج بان التغيير قد يحصل قبل صدور تقرير ميليس بهدف بلبلة الاجواء السياسية وتأجيج الوضع الامني على ايقاع موجات التفجير المتنقلة.

قال البطريرك صفير في عظته الاسبوعية، الاحد الماضي، ان ما نسمعه في لبنان هذه الايام لا يبعث على الطمأنينة.

وكان بهذه العبارة يختصر حال الفلتان والتسيّب ونضوج الفتنة على نار أوقدتها كل العناصر التي برزت على الساحة منذ اعتقال مدراء الامن. والمؤكد ان تراشق الاتهامات بين الذين صنعوا الحرب اللبنانية، هو مجرد مقدمة لعودة مسلسل التخويف، خصوصاً بعدما ظهرت الدولة وكأنها مجردة من صلاحيات الرئاسة ومن النظام الامني ومن الضوابط الخلقية. ومثل هذه الظاهرة تفتح ابواب النزاع الداخلي، وتسمح للفتنة بأن تتسلل من كل الثغرات.

ومع بروز هذه المؤشرات تذكرت لقاء جرى في لندن بين الرئيس خوليو طربيه (توفي الاسبوع الماضي) وبعض افراد الجالية اللبنانية.

كان ذلك في ختام زيارته الرسمية لبريطانيا تلبية لدعوة رسمية من رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر. قال "ابن تنورين" في بداية حديثه أن واجبه نحو عائلته ووطنه الاصلي، يفرض عليه استثمار مركزه كرئيس جمهورية وكرئيس لمجموعة الدول الخمس، بحيث يساهم في وقف شلال الدم.

قلنا له إن الصحف الكبرى بدأت تتحدث عن موت لبنان كوطن، وأن أي مبادرة خير في هذا السياق يمكن ان تساعد على النهوض.

قال: احب قبل كل شيء أن استوضحكم عن الموقف الرسمي الذي يجب ان أتبناه في محادثاتي حول الازمة اللبنانية!

عندئذ انعكس النزاع المحلي على مواقف الحاضرين، فاذا به يحصل على عشرة آراء متناقضة. ورأيناه يجلجل بالضحك وهو يروي لنا حكاية سابقة، ويقول: اتصل بي مرة الرئيس الياس سركيس ليطلب مني مساندة سفير لبنان غسان تويني في الامم المتحدة.

وعلى الفور تجاوبت مع ندائه وطلبت من رئيس جامايكا في ذلك الحين ادوار صياغة (لبناني الاصل) لكي يبلغ سفيره في المنظمة الدولية ضرورة التنسيق مع السفير تويني.

بعد مرور اسبوعين فوجئت باتصال آخر من الرئيس كميل شمعون يتمنى علي ان اسحب دعمي لموقف السفير تويني. ولما سألته عن السبب، أجاب: لأن تويني لا يمثل لبنان بقدر ما يمثل العرب والفلسطينيين... و.. و.

واكمل الرئيس طربيه قائلا: عندها اتصلت بصياغة لاحذره من مغبة السقوط في المستنقع اللبناني، واذكره بأن أجدادنا تركوا البلاد عندما حلت الفوضى في ربوعه وطغت موجة البلبلة السياسية بين زعماء العشائر.

تذكرت كلام الرئيس الراحل طربيه وانا أرى في هيئة الامم ثلاثة مواقف لبنانية رسمية متعارضة يعبر عنها الرئيس لحود ورئيس الوزراء السنيورة ووزير الخارجية فوزي صلوخ. هذا، اضافة الى مئة موقف آخر، الامر الذي يجعل من الوطن الصغير برجاً لبابل عصرية لن يسكتها سوى ميليس الموزع النشاط بين مونتي فردي (الجبل الاخضر) في لبنان، ومونتي روزا (الجبل الوردي) في سوريا!.

مصادر
النهار (لبنان)