العلاقات اللبنانية – السورية وخصوصاً منذ تولي الرئيس الراحل حافظ الأسد الحكم في دمشق عام 1970 ولاحقاً بعد دخوله العسكري والسياسي لبنان بمباركة عربية ودولية عام 1976 وأثناء المدة الطويلة التي امضاها هذا الوجود على ارضه، هذه العلاقة تقتضي من الباحثين اللبنانيين والسوريين وغيرهم وكذلك من المؤرخين القيام بدرس معمّق لها وموضوعي وذلك بغية اطلاع الشعبين اللبناني والسوري فضلاً عن سائر الشعوب العربية على حقيقتها وعلى الأهداف التي اراد طرفاها (أي لبنان وسوريا) تحقيقها منها. وقد تكون هذه الاهداف متناقضة جزئياً او كلياً كما قد يكون المعلن منها عند الفريقين مختلفاً عن المضمر او المستتر. وايضاً بغية وضع الارضية الصالحة لارساء علاقة جيدة جداً ومتكافئة أي ندية رغم خصوصيتها بين الدولتين الشقيقتين. وهو الهدف الذي وضعه لأنفسهم اللبنانيون على تنوّع انتماءاتهم السياسية والطائفية والمذهبية وتناقضها بعد اتفاق الطائف الذي انهى الحرب عام 1990 والذي استمروا متمسكين به بعد التطورات الدراماتيكية التي حصلت في لبنان منذ أيلول الماضي ولا تزال تحصل وفي مقدمها انسحاب الجيش السوري من لبنان أواخر نيسان الماضي ورغم انقسامهم فريقين احدهما بقي حليفاً لسوريا وان وفقاً للمعايير السابقة وآخر فضّ تحالفه معها الأمر الذي دفعها والحلفاء اللبنانيين الذين بقوا معها الى اعتباره معادياً لها ولشعاراتهم الوطنية والقومية.

وبما ان العمل التأريخي والبحثي للعلاقة اللبنانية – السورية المذكورة يتطلب وقتاً طويلاً واختصاصاً عميقاً في هذا الموضوع وقدرة على الاطلاع على الملفات وانهاء للمرحلة الانتقالية الحالية في لبنان وتوقفاً لتداعيات التطورات اللبنانية المعروفة في لبنان وسوريا فان الحكمة تقتضي امرين. الأول، عدم الغوص الآن في تقويم شامل ومعمق لهذه العلاقة. أما الثاني فهو الاشارة الى أمر أو أكثر من شأنه القاء الضوء على حقيقة العلاقة التي ربطت لبنان بسوريا على مدى ثلاثة عقود ايام الرئيس الراحل حافظ الأسد وعلى مدى خمسة اعوام تقريباً على ايام خلفه في الرئاسة السورية الدكتور بشار الأسد.

وهذا الأمر يمكن التعبير عنه بسؤالين هما الآتيان:

-هل تمسك حلفاء سوريا في لبنان فعلاً بعلاقات لبنانية – سورية خاصة او مميزة أم كان لهم في الحقيقة والواقع موقفان من هذا الموضوع واحد معلن وهو التمسك المشار اليه والآخر مستتر او مضمر لا علاقة له بالقومية والوطنية وما الى ذلك؟

- هل كانت السياسة السورية الرسمية المعلنة تجاه لبنان هي السياسة الفعلية التي مارستها القيادة السياسية السورية العليا بكفاية عالية وخصوصا أيام الرئيس حافظ الأسد أم كانت لسوريا سياسة أخرى مستترة تحاول بواسطة السياسة المعلنة والرسمية تطبيقها؟ وهل كانت لهذه السياسة الفعلية الأخرى اهداف وطنية وقومية وان جزئياً او أهداف اخرى لا يمكن الاعلان عنها او الجهر بها لاسباب عدة متنوعة؟

السؤال الثاني هذا لن نتطرق اليه في هذه العجالة. وقد يأتي وقت معالجته لاحقاً أولاً بسبب الحاجة الى المزيد من المعطيات والمعلومات، وثانياً لأننا لا نريد التدخل في الشأن السوري الداخلي أو الوضع السوري الداخلي في مرحلة يتعرّض فيها الاخير لضغط كبير من داخل ومن قلب المنطقة العربية ومن المجتمع الدولي. ولا أحد يعرف حتى الآن تداعيات هذا الضغط ونتائجه مستقبلاً سواء كان هذا المستقبل قريباً أو متوسطاً أو بعيداً.

أما في ما يتعلق بالسؤال الأول فان المتابعة اليومية والدقيقة لأوضاع لبنان وسوريا على الاقل منذ 1975 حتى 26 نيسان 2005 تدفع الى الاستنتاج أن حلفاء سوريا من اللبنانيين وخصوصاً الذين لا يزالون متمسكين بالتحالف معها بعد كل الذي حصل او بالاحرى معظمهم، لأن التعميم لا يجوز في هذه الحال، لم يكونوا فعلاً حلفاء لسوريا، بل كانوا وبألسنتهم كلهم مسيحيين ومسلمين حلفاء سوريا الأسد. أولاً سوريا حافظ الأسد، ولاحقاً حلفاء سوريا بشار الأسد بعد انتقال الاول الى جوار ربه قبل زهاء خمس سنوات وقد دلت على ذلك تصريحاتهم التي ركزت دائماً على ان التحالف هو مع سوريا الأسد، فالقيادات المسيحية من بينها كانت أكثر وضوحاً في هذا الأمر اذ كانت تركز تأييدها لسوريا الأسد وخصوصاً في السنوات الأخيرة بالتأكيد ان حماية مسيحيي لبنان هي التي تؤمنها مع ما يعنيه ذلك قلة ثقة من هذه القيادات بالشركاء المسلمين في الوطن اللبناني او بأي سوريا اخرى. وكل القيادات السياسية والحزبية الشيعية ركزت على الأمر نفسه. وجارت هؤلاء القيادات الاساسية السنية والدرزية ولكن مع فرق طفيف (nuance ) عكس في حينه أمرين. الأول، ان المجاراة كانت بفعل أمر واقع في معظمها لم يكن ممكناً تعديله او حتى تغييره. والثاني، ان التمسك بسوريا كدولة شقيقة هو الاساس عندها وان لاسباب "فئوية" مماثلة للاسباب الفئوية التي دفعت الآخرين الى المواقف المذكورة أعلاه.

هذا التركيز على ان الحلف هو مع سوريا الاسد (أولاً حافظ ثم بشار مع حفظ الألقاب) هل يعني ان الحلف ينفك اذا لم تعد سوريا لسبب أو لآخر "سوريا الأسد"؟ وهل يعني التركيز ايضاً ان الحلف سيبقى معها اذا حافظ النظام على هويته وان من دون آل الأسد؟ وهل يعني التركيز ثالثاً اذا تغيرت الهوية "السياسية" و"الشعبية" للنظام ان الحلف سينقض وان جهات اخرى كانت متحفظة عنه بسبب هذه الهوية ستنفتح عليه مثلما انفتح الآخرون في لبنان على الأول؟

طبعاً، ليست هناك أجوبة عن اسئلة كهذه وليس الهدف من طرحها التشكيك في احد او نكء جراح احد، لكن هذه الاسئلة تطرح أسئلة اخرى تتعلق بسوريا وطبيعة النظام فيها.

والجواب عن اسئلة كهذه يقتضي تدقيقاً واطلاعاً وخبرة وأمورا اخرى كثيرة غيرها، وذلك يلزمه وقت طويل لكن المتابعة اليومية وعلى مدى عقود لسوريا تشير الى ان النظام في سوريا كان في الواقع وربما لا يزال يحمل اكثر من طابع وصفة في مقدمها الوطني والقومي.

ماذا تعكس هذه الاسئلة المتنوعة؟

تعكس أولاً ترسّخ الخلافات العميقة بين اللبنانيين والتي دفعت كل فريق منهم الى اختيار "سوريا" التي تناسبه (القومية، الوطنية، الحزبية الفئوية...). وتعكس ثانياً وجود استراتيجيا ثابتة كانت عند الرئيس الراحل حافظ الأسد تقضي بالتحالف أو بالأحرى باحتواء معظم الاطراف اللبنانيين ان لم يكن كلهم أولاً بحجة حمايتهم (بعضهم من بعض) في حين ان المطلوب كان وضعهم على طريق التفاهم التام والوفاق الوطني. وعناصر هذه الاستراتيجيا متنوعة واحياناً متناقضة.

لماذا هذا الكلام الآن على كل هذه الموضوعات؟

ليس لأن سوريا وتالياً نظامها في وضع صعب حالياً. وليس لأن ثمة احتمالات سلبية كثيرة تحاصرها وتحاصره. وليس طبعاً للشماتة او للتعبير عن مشاعر معادية وحاقدة دفينة بل هو للفت اللبنانيين الى أمر اثرناه مراراً في هذه الزاوية هو ان مصلحة لبنان أن تكون علاقاته جيدة جداً مع سوريا بصرف النظر عمن يحكمها وان مصلحة سوريا ان يكون لبنان مستقراً ومنسقاً معها أياً تكن الصيغة السياسية فيه. علماً ان هذا الاستقرار لا يؤمنه الا صيغة متوازنة وعيش مشترك ومساواة وتكافؤ فرص وعدالة وحرية وديموقراطية. وقد أثار هذا الأمر أخيراً الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط علنا، وعلى كل اللبنانيين التمسك بهذا الأمر وعدم الرهان مرة اخرى على تغيرات في سوريا لأنها اذا فعلت ولم يتغير شيء في التفكير اللبناني الذي ثبت عقمه خلال العقود الماضية أي اذا أدت الى تبادل الادوار بين اطرافهم نكون ندور على أنفسنا "وواقفين مطرحنا" كما يقال.

مصادر
النهار (لبنان)