تكثفت في الآونة الأخيرة التحركات، التي تؤشر إلى ان السير باتجاه زمن العدالة الدولية، صار أمرا واقعا. ففي غضون أسبوع واحد، تواصلت ثلاثة حوادث مهمة ذات صلة بالعدالة على رغم اختلاف الظروف والحيثيات،

كان أولها استمرار نشاط اللجنة الدولية للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق الشهيد رفيق الحريري وقيامها بتوقيف أشخاص على ذمة التحقيق بجريمة اغتيال الحريري، ثم الذهاب إلى سورية لسماع شهادات مسئولين سوريين، والثاني كان امتناع عدد من جنرالات الحرب الإسرائيليين من دخول بريطانيا أو السفر إليها خوفا من اعتقالهم وسجنهم بسبب جرائم كانوا ارتكبوها ضد الفلسطينيين،

وكان الحادث الثالث هو امتناع الولايات المتحدة عن إعطاء القائد السابق لسرايا الدفاع في سورية رفعت الأسد سمة دخول بسبب دوره في مذابح جماعية حدثت في سورية بداية ثمانينات القرن الماضي، وهو الذي كان تعرض للمحاكمة بسبب ذلك أمام القضاء الفرنسي قبل سنوات.

وتؤكد هذه المؤشرات، أن العالم لم يعد بامكانه السكوت عما يجري من عمليات قتل فردية أو جماعية، وان أمر اعتقال الجناة ومحاسبتهم وإيقاع العقوبات المناسبة بحقهم، صار في سلم اهتمام الحكومات والشعوب ومنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، وهو ميل ليس بجديد، لكنه سجل دخولا في ديناميات جديدة، تتفاعل اليوم بصورة سريعة، تجعله يتجاوز ما كان تعرض له سابقا من انتكاسات نتجت عن حساسيات ومواقف سياسية، استسلمت لها بعض الحكومات الاوروبية عندما أوقفت تحت الضغوط الأميركية والإسرائيلية محاكمات بعض المتهمين بارتكاب جرائم بينهم رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون، فيما كانت حكومتا الولايات المتحدة و"إسرائيل"، تناهضان مسار العدالة الدولية من خلال الامتناع عن التصديق على معاهدة روما، التي تم بموجبها إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، والتي تعطي للدول الموقعة عليها الحق في محاكمة أشخاص متهمين بارتكاب جرائم حرب.

لقد نشط التوجه نحو العدالة في عقد التسعينات وخصوصا بعد المذابح التي مارسها الطغاة من القادة والجنرالات ضد شعوب وجماعات في البلقان وإفريقيا وبلدان آسيوية وأميركية لاتينية، وهي مذابح هزت ضمير العالم، فجاءت الحركة باتجاه إقامة محكمة جنائية دولية، ووقعت معظم الدول الاتفاق الخاص في سياق التعبير عن رغبة أكثرية العالم في وضع حد للجرائم التي يقوم بها طغاة وقتلة وبينهم أشخاص لهم صفات رسمية من ضباط الجيش وأجهزة المخابرات وزعماء وقادة دول.

وشهدت سنوات العقد الماضي ملاحقات ومحاكمات للكثير من الشخصيات المعروفة بجرائمها على الصعيد العالمي، كما في مثال مجرم حرب البلقان الرئيس ميلوسوفيتش، ورئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون، ورئيس تشيلي السابق الجنرال بينوشيت وآخرين، وأثمرت بعض الملاحقات والمحاكمات، أحكاما كما في حال ميلوسوفيتش، بينما جرى طي محاكمة شارون في بلجيكا من خلال تعديل القوانين المحلية، وجرت عملية تهريب للجنرال بينوشيت من المحاكمة.

لكن الظروف تغيرت وتبدلت في السنوات القليلة الماضية وخصوصا بعد دخول العالم أتون الحرب على الارهاب، وهي حرب لا تنفصل في جوهرها عما يجري ارتكابه من جرائم وانتهاكات في مجال حقوق الإنسان سواء قام بها أعضاء في جماعات إرهابية على نحو ما يجري القيام به من عمليات قتل جماعي ضد المدنيين في العراق في تفجيرات ومجازر تنسب إلى "البنلادنيين" وأنصارهم الزرقاويين أو تلك الأعمال التي يقوم بها جنرلات الجيش والاستخبارات كما في المثالين الإسرائيلي ضد الفلسطينيين والأميركي ضد العراقيين، وهي عمليات تتشابه مع التفجيرات التي اجتاحت لبنان في الأشهر الأخيرة، وأدت إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري وبعض مرافقيه في بيروت، واغتيال لبنانيين آخرين بينهم سمير قصير وجورج حاوي.

وأدت الجرائم الأخيرة، ولاسيما في لبنان وفلسطين والعراق إلى تحريك مسار العدالة الدولية، وإذا كان هذا المسار يعبر عن نفسه في الواقع اللبناني فيما تقوم به لجنة التحقيق الدولية ورئيسها ميليس من تحقيقات وتوقيفات، فإن المسار يعبر عن نفسه بطريقة أخرى في الواقع الفلسطيني، إذ تنشط جماعات فلسطينية وإسرائيلية ودولية في إعداد ملفات بحق المسئولين الإسرائيليين ممن ارتكبوا جرائم ضد الفلسطينيين على نحو ما قام به المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، بالتعاون مع مؤسسة "هيكمان آند روز" البريطانية للاستشارات القانونية في رفع دعوى على القائد السابق للجبهة الجنوبية في الجيش الاسرائيلي الجنرال دورون ألموخ الذي كاد يعتقل في لندن حديثا، وفي مثال قيام حركة السلام الإسرائيلية التي يتزعمها يوري افنيزي بالتعاون مع المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان لرفع دعاوى قضائية في بعض الدول الأوروبية ضد رئيس الأركان الجنرال دان هالوتس، وضد سلفه المتقاعد موشيه يعلون بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية بينها مجزرة قتل فيها عشرات الفلسطينيين عندما اغتالت القوات الإسرائيلية صلاح شحادة أحد قادة حماس في فلسطين.

وتحرك مسار العدالة في العراق بصورة محدودة وخصوصا في مثالين اثنين، أولهما أعقب فضيحة سجن أبوغريب، التي خرق فيها الأميركيون بصورة فاضحة حقوق الإنسان وكرامته، والثاني تقديم الرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى المحاكمة، وإذا كان المثال الثاني سيقود إلى تحقيق العدالة بإصدار حكم على طاغية العراق السابق نتيجة ما قام به من جرائم، فإن نتائج المثال الأول كانت محدودة، بسبب ان محاكمة المرتكبين الأميركيين تمت بواسطة محاكم أميركية خضعت لاعتبارات سياسية أو قضائية منعت أحكامها، ان تكون عادلة وحقيقية.

وعلى رغم ما تمثله الحال الأخيرة من إحباط للعدالة الدولية، فإنه لا يمكن اعتبارها تعبيرا عن مسار صار واضحا، بل له تعبيرات قوية وظاهرة، تشجع كل الشعوب والجماعات التي تعرضت للانتهاك والاضطهاد والقتل على ايدي الطغاة وجنرالات الجيش والمخابرات والعصابات المنظمة على إعداد ملفات، ورفع دعاوى عليهم حيث أمكن. فإن لم يعتقلوا ويحاكموا، فإن حركتهم ستقيد على الأقل وفي ذلك بعض عقاب، ستتوالى فصوله لاحقا.

مصادر
الوسط (البحرين)