بالأمس «تصبّحت» بصحافي عربي مخضرم يحاضر في إحدى المحطات الفضائية حول الأوضاع البائسة في المنطقة. وصراحةً أقول إنني لو لم أكن أعلم الكثير عن ارتباطاته القديمة بدوائر استخباراتية أجنبية لكان وقع كلامه عليّ مختلفاً بعض الشيء.

مع هذا، لا بد من الإقرار بأن كثيرين ممَن رفعوا خلال العقود الفائتة شعارات العروبة والوحدة والنضال خذلوا شعوبهم وأذلوا كرامتها، وذلك إما لاختلال جوهري في قراءاتهم السياسية، أو في نسفهم عمداً كل المبادئ التي كانوا يتشدقون بها خدمةً لأغراضهم الشخصية ومصالحهم الفئوية والاقليمية.

فما من شك أن مَن يرفع شعارات العروبة يتعرض هذه الأيام الغبراء لنظرات الاستهزاء وتهم «المراهقة الفكرية» القاصرة عن فهم الواقع المعاش.

إنها عملة سحبت من التداول ...

وصفة انتهت مدة صلاحيتها...

فكرة أسقطها الواقع والمنطق و«النظام العالمي الجديد» بمحافظيه «الجدد» و«القدامى» ...

هكذا تبدو لنا هذه «الهوية» التي ركّعها أدعياؤها أمام جبروت أعدائها التاريخيين الألداء خلال هذه الفترة من عمر منطقة الشرق الأوسط التي لا يجيد أهلها قراءة التاريخ، ولا يفهمونه إذا قرأوه.

بعد افول نجم الدولة العثمانية التي وحدت بطريقتها الخاصة معظم أرجاء العالم العربي، جاء الغرب ليصفّي حسابات حضارية ـ دينية قديمة. أو ليس هذا ما قصده الجنرال الفرنسي غورو عندما وقف في دمشق أمام قبر صلاح الدين الأيوبي عام 1920؟

غير أن مرحلة تصفية الحسابات تعطلت مؤقتاً عندما خرج من رحم العالم الغربي التناقض بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، فحصل «الصغار»، الذين نحن منهم، على متنفس انتعشت فيه الأحلام الكبيرة المبنية على منطق بسيط هو «في الاتحاد قوة». وكانت «العروبة»، المتغذية أصلاً من رد الفعل على الطورانية التركية، الهوية المقبولة والقابلة ... ليس فقط لتجاوز التناقضات المذهبية بين المسلمين الذين يشكلون السواد الأعظم من العرب، بل أيضاً لكسب الأقليات غير المسلمة التي كان مثقفوها ينظرون إلى الغرب المسيحي كمثال ومخلّص.

وبصرف النظر عن الثغرات البنيوية في «العروبة» الرومانسية المستنهِضة أيام قحطان وعدنان قبل أن تسقط في مسلسلات مستنسخة من «حرب البسوس»، يجب القول إن تأسيس دولة إسرائيل أسهم إسهاماً في إعطاء القومية العربية نزعة «شوفينية» وحركية وعسكريتارية في آن. وتزامن هذا التحول مع تزايد أهمية النفط واستعار «الحرب الباردة» بين المعسكرين الشرقي والغربي.

اليوم بعد انتصار الغرب، بإرثه الاستعماري ونزعته «العولمية»، واحتدام الإشكالية داخل الجسم الإسلامي بعد التجربة الأفغانية وتداعياتها ـ استطراداً منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 ـ انهار خياران «تضامنيان» اساسيان عند كل مواطن من أبناء المنطقة يرفض الاستسلام لأي هوية مفروضة عليه فرضاً من الغرب وقاعدته الإقليمية إسرائيل. هذان الخياران هما: «الاشتراكية» المحظورة أميركياً ... و«الإسلام السياسي» المرفوض غربياً بالمطلق الآن، بعد هجمات نيويورك وواشنطن، ثم مدريد فلندن.

وبناء عليه، في وجه المشروع التقسيمي، ومن ثم التفتيتي، في منطقة الشرق الأوسط، نجد أن البديل «التضامني» الوحيد الذي ما زال بالإمكان التكلم عنه، مع أنه مرفوض منذ البداية، هو الهوية العربية. والدليل أن المجتمع الدولي (وتحديداً الولايات المتحدة) لم يطالب الدول العربية علناً حتى الآن بحل جامعة الدول العربية، مع أنه لا يجوز استبعاد مثل هذه الخطوة. بل الواضح لكل من يفكر جدياً في التصورات المطروحة للمنطقة أن «الشرق الأوسط الجديد» سيكون حقاً البديل للجامعة، تحت قيادة إسرائيلية ـ تركية.

عودة إلى الصحافي المخضرم، الذي يبشّر بنظام إقليمي تعيش فيه كل دولة داخل حدودها، وتُمنع حكومتها من ممارسة السياسة الإقليمية بعدما أوكل أمر هذه السياسة لمرجعيات أعلى وأقوى.

أكيد الوضع الأقليمي اليوم هو كما نرى ونسمع. وخطوات التقسيم التي أجّلت في لبنان بين عامي 1975 و1990 .. استؤنفت بنجاح كبير من العراق، وها هي تنطلق منه كالأعاصير إلى الدول المجاورة في ظل غياب كامل للإرادة العربية الواحدة. ولكن ثمة سؤالين يستحقان الطرح في هذا السياق:

الأول، هو أي حد تقسيمي وتفتيتي يمكن للمنطقة تقبله أو تحمله؟ والثاني، إذا طرأ طارئ إقليمي أو داخلي ـ على شاكلة «ووتر غيت» أو «إيران كونترا» ـ أدى إلى تبديل السياسات الراهنة في عواصم القرار ... كيف سيتسنى لأبناء المنطقة إذ ذاك لملمة أشلائها؟

مصادر
الشرق الأوسط (المملكة المتحدة)