يزعم معجبو رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون, البالغ من العمر 77 عاماً, أن تغييراً جوهرياً قد طرأ عليه. فبدلاً من ذلك القائد سيئ السمعة والصيت, المخضب اليدين بدماء الفلسطينيين, الشديد العداء والكراهية للحركة الوطنية الفلسطينية, ها هو قد تحول أخيراً إلى رجل دولة, عقد العزم على أن ينذر بقية حياته السياسية لإبرام صفقة سلام إسرائيلية- فلسطينية. ويدلل أصحاب هذا الرأي على صحة ما ذهبوا إليه بانسحابه الطوعي الأخير من قطاع غزة – أمام حملة شرسة من المعارضة التي أبداها المستوطنون اليهود- إضافة إلى خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة, في الخامس عشر من الشهر الجاري. وقد أكد شارون أمام ذلك الاجتماع, أن مهمته الرئيسية تتمثل في "توجيه نداء للجيران الفلسطينيين, بغية التوفيق والمصالحة الرامية لوضع حد للنزاع الدموي المتبادل, والسير قدماً في الطريق المفضي إلى السلام والتفاهم المشترك بين الطرفين". ولانتزاع المزيد من التصفيق والإعجاب من المجتمعين في مقر الأمم المتحدة, أضاف شارون قائلاً:"إن الحفاظ على حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل, لا يعني بأي حال من الأحوال, تجاهل حق الآخرين في الأرض نفسها. وسوف يظل الفلسطينيون جيراناً لنا دائماً. ونؤكد احترامنا لهم, وعدم تطلعنا إلى الهيمنة عليهم. وهم مثلنا تماماً, يحق لهم أن ينعموا بالحرية, وأن تكون لهم دولتهم الوطنية المستقلة ذات السيادة".

وبعد, فما الذي تعنيه هذه التصريحات؟ وهل صحيح أن شارون قد تبدل على عكس كل التوقعات والتكهنات, إلى "ديجول" إسرائيلي معاصر؟ هل صحيح أنه شرع في إعداد المناخ السياسي والفكري, لانسحاب تاريخي واسع النطاق, مما تبقى من مستوطنات الضفة الغربية كلها؟ أي خيبة وصدمة صعقت مهووسي ومتشددي حزب "الليكود" المتعصبين لفكرة "دولة إسرائيل الكبرى" جراء هذه التصريحات! وكيف لا يستشعرون هذه الصدمة, وقد بدا لهم الانسحاب الأخير من قطاع غزة, في حده الأدنى, مؤشراً على بداية سلسلة لا نهاية لها من التنازلات والتراجعات الإسرائيلية المهزومة الخائبة؟ وكم كان انزعاج هؤلاء عظيماً, حينما تراءى لهم انسحاب غزة هذا, كما لو كان مقدمة لطوفان الانسحابات القادمة من أراضي الضفة الغربية– التي يعتبرها متشددو اليمين الإسرائيلي, الأرض الإسرائيلية "الأكثر قداسة" على الإطلاق!

يذكر بهذه المناسبة أن مستوطني القطاع وأنصارهم من المهووسين المتطرفين, كانوا قد سارعوا إلى دمغ شارون بتهمة الخيانة, قبل تنفيذه الفعلي لخطة الانسحاب من هناك. بل ذهب بعضهم إلى أكثر من ذلك, بالدعوة إلى قتله. وهناك من دعا إلى محاكمته وعزله عن منصبه الحالي, وإسقاط حكومته, وقفاً لما يرونه انحرافاً خطيراً, وتراجعاً بحدود الدولة الإسرائيلية, إلى ما كانت عليه عام 1967. وعلى الرغم من أن حزب "الليكود" كان مصمماً على إجراء انتخاباته الأولية في شهر أبريل المقبل, بغية تحديد من سيقود الحزب في المرحلة المقبلة, التي ستشهد إجراء الانتخابات العامة في نوفمبر من عام 2006, إلا أنه تراجع عن عزمه وخططه هذه. ففي خطوة استهدفت استباق الزمن وانتزاع زمام قيادة الحزب من يد شارون, بادر غريمه الليكودي بنيامين نتانياهو إلى تقديم اقتراح للجنة المركزية للحزب, بتقديم إجراء الانتخابات الأولية للحزب, بحيث تجرى في شهر نوفمبر المقبل, وليس في الموعد السابق المضروب لها في أبريل 2006. هذا ومن المتوقع أن يشهد اليوم الاثنين, التصويت على هذا الاقتراح. وفيما لو جرى تبنيه, فإنه يتوقع له أن يحدث تداعيات كبيرة على السياسات الإسرائيلية والإقليمية, على امتداد المنطقة العربية بمجملها.

وفيما لو خسر شارون الاقتراع داخل الاجتماع المذكور– وهو أمر وارد ومرجح في ظل سيطرة اليمين الليكودي الواضحة على اللجنة المركزية للحزب- فإنه ربما يقرر التنحي عن قيادة الحزب. ومن شأن خطوة كهذه, أن تسفر عن انهيار التحالف القائم الآن بين "الليكود" وحزب العمل في الكنيست الإسرائيلي. وخلال الأسابيع الأخيرة الماضية, راج الكثير من اللغط والتكهنات الدولية, بأنه في حال خسارة شارون للاقتراع باستمراره في قيادة الحزب, فإنه على الأرجح سيضطر إلى الخروج من الحزب الذي كان قد أسسه بنفسه خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي. وفيما لو حدث هذا, ترجح التكهنات ذاتها, أن شارون سوف يسعى إلى تأسيس حزب سياسي وسطي جديد, يضم تحت قيادته ثلثي القاعدة الانتخابية الإسرائيلية, المؤيدة لخطة انسحاب واسعة النطاق, من أراضي الضفة الغربية المحتلة, إلى جانب تأييد خط التسوية السلمية للنزاع, القائمة على حل الإعلان عن دولتين مستقلتين, تعيشان جنباً إلى جنب.

وعلى الرغم من أن هذا يظل أفقاً واحتمالاً غير مستبعد للخواتيم والنهايات, فإنه لا يزال سابقاً لأوانه, ولم تلح تباشيره بعد. فرؤية شارون للدولة الفلسطينية المستقلة, تختلف تمام الاختلاف, عن تلك التي يراها محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، ناهيك عن تصادمها مع تلك المنسوبة إلى المتشددين الفلسطينيين. ويكمن هذا الاختلاف في عزم شارون على الحفاظ على مدينة القدس بكاملها, تحت السيادة الإسرائيلية المطلقة. وبالرجوع إلى الخطاب نفسه, الذي ألقاه أمام الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة, وصف شارون مدينة القدس بأنها "ظلت عاصمة للشعب اليهودي لما يزيد على ثلاثة آلاف سنة, وأنها ستظل العاصمة الأزلية غير المجزأة لدولة إسرائيل". ولكن هل يعلم شارون أن في هذا التمسك المتشدد بمدينة القدس ما ينسف أي احتمال أو أفق لإبرام تسوية سلمية للنزاع مع الفلسطينيين؟ ليس ذلك فحسب, بل لا يزال شارون يواصل تعزيزاته وتوسعاته الاستيطانية في مستوطنتي "إرييل" و"معالي أدوميم", إلى جانب مضيه قدماً في تشييد جداره الأمني, الذي يلتهم جزءاً كبيراً من الأراضي الفلسطينية, ويشير إلى اعتزامه إقامة حدود أمنية سياسية فاصلة بين المستوطنات والفلسطينيين.

إلى ذلك كله, فإن التطور غير الإيجابي في مواقف شارون, اشتراطه المسبق لأي دخول في مفاوضات تسوية سلمية مع الفلسطينيين, أن تضع السلطة الفلسطينية حداً لما يسميه "الإرهاب الفلسطيني" وأن تُفكك بنيته التحتية تماماً, متبوعاً بتفكيك كافة الفصائل المسلحة, ووضع حد لنزعة الكراهية ضد إسرائيل في أوساط الفلسطينيين. بعبارة أخرى, فإن مطلب شارون يتلخص في أن يكف الفلسطينيون عن أي شكل من أشكال مقاومتهم الحالية للاحتلال, وأن يركنوا إلى "حسن نواياه" وحدها في تقرير مصيرهم ومستقبلهم! لكن وكما أثبتت تجارب ودروس التاريخ, فإن سحابة كثيفة من الشك تطال نوايا شارونية كهذه. وعلى رغم أن شارون, ربما قرر في خريف عمره وخواتم حياته السياسية, أن يتحول إلى حمامة للسلام, غير أنه لا يتطلع إلى السلام, إلا وفق شروطه ومنظوره هو. ولذلك فما أصعب المنال, وكم هو عصي على الكل – دعك عن الفلسطينيين- أن يوافقوه الرأي ووجهة النظر!

مصادر
الاتحاد (الإمارات العربية المتحدة)