أطلق وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل اعتراضاً من العيار الثقيل طال انتظاره بخصوص الوضع في العراق، فقد أعلن من دون أي مواربة أن أمريكا مسؤولة عن التناحر الطائفي الذي يواجه البلاد وقد يؤدي إلى تفكيكيها وأن الأمريكيين يسلمون العراق للإيرانيين على طبق من ذهب. لا شك أنه تصريح جريء ومطلوب جداً بمقاييس الدبلوماسية السعودية المتحفظة. لكن لا أدري كيف يمكن أن نصنف التحرك السعودي الجديد! هل يدخل في إطار دموع التماسيح لذر الرماد في العيون، أم هو صرخة هلع حقيقية ليس على ما آل إليه الوضع العراقي بل على تأثيراته الخطيرة والمتعددة على السعودية. أعتقد أن الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى الصواب، فقد أدرك السعوديون أخيراً أن ما يجري في العراق سيطالهم وسيضر بهم كثيراً بطريقة أو بأخرى وبأنهم ربما لم يقرأوا المستقبل جيداً عندما دعموا الغزو الأمريكي لبلاد الرافدين بالغالي والرخيص.

لقد غدا السعودييون، كغيرهم من الأنظمة العربية التي ساندت المشروع الأمريكي في العراق، في وضع "كش مات" بلغة الشطرنج. فمن المعروف أن هناك تنافساً خطيراً بين إيران والسعودية منذ ثورة الخميني على قيادة المنطقة إن لم نقل على قيادة العالم الإسلامي بأجمعه. وقد كانت فتوى الخميني بإهدار دم الكاتب البريطاني الهندي سلمان رشدي بسبب روايته الشهيرة "آيات شيطانية" أحد عنواين التصارع الإيراني السعودي، فقد زاود النظام الإيراني وقتها على النظام السعودي في التصدي للرواية المسيئة للإسلام ورصد مكافأة مالية هائلة لمن يستطيع قطف رأس رشدي. لكن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر منذ ذلك الوقت، فلم يعد التنافس بين الإيرانيين والسعوديين على حمل راية الإسلام شأناً عقائدياً فقط، كأن تكون الأسبقية للسنة لا للشيعة في تمثيل المسلمين عالمياً، بل غدا بعد الاحتلال الأمريكي للعراق أمراً محسوساً وأصبحت تدور تجلياته على الأرض العراقية حالياً وربما السعودية لاحقاً، لا على عقول وأفئدة المسلمين في العالم فحسب.

لم يعد يخفى على أحد أن الإيرانين هم أكبر الرابحين من الغزو الأمريكي للعراق بشهادة وزير الخارجية السعودي والإعلام الذي يدور في فلكه. فقد اعترفت راغدة درغام مراسلة صحيفة الحياة في نيويورك في مقال هام لها بأن
إيران غدت "أهم وأقوى من الدول العربية كلها معاً" وبأن "الأشهر المقبلة ستتوج إيران المنتصر والمستفيد الأكبر من الحرب الاميركية في العراق ليس من ناحية نفوذها في داخل العراق وحسب وإنما لجهة احتفاظها بالقدرات النووية ... هذه الأشهر ستثبت أيضاً أن القرارات الكبرى للمنطقة خرجت كلياً من الأيدي العربية، بعضها بسبب أخطاء فادحة ارتكبها القادة العرب... وبعضها لأن لغة الفاعلين الكبار في منطقة الشرق الأوسط لا تشمل اللغة العربية بل باتت محصورة في إيران وإسرائيل وتركيا... فالورقة العراقية اليوم هي بين أهم الأوراق الايرانية بعدما بات في العراق حكم موالٍ لطهران وبعدما بات لإيران وجود على الأرض العراقية، وبحماية اميركية - بريطانية." وتعترف درغام أيضاً بأن " وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل صارح كبار النخبة الأميركية في لقائه مع "مجلس العلاقات الخارجية" في نيويورك عندما قال لهم: إن الايرانيين موجودون الآن في العراق بشكل واسع... وإن الأماكن التي يتم تأمينها من قبل الأميركيين والبريطانيين يدخل إليها الايرانيون ويقدمون الأموال والسلاح للميليشيات". وقال لهم أيضاً: "لقد دخلنا حرباً معاً لنمنع الايرانيين من دخول العراق، وها أنتم تسمحون لهم بدخول العراق من دون حرب.... إيران أصبحت فاعلة دائمة فيما أميركا مؤثرة عابرة في العراق... أكان ذلك بقرار أميركي متعمد، أو كان نتيجة أخطاء أميركية، أصبح العراق الآن رأسمالاً رئيسياً لإيران، استراتيجياً، ونفطياً، ونووياً، وزعامة إقليمية. لقد أصبحت إيران لاًعباً نووياً وباتت واقعاً لا مجال للآخرين سوى الاستعداد للاعتراف به لاحقاً". أما "العرب الذين خاضوا الحروب عبر العراق ومعه وفيه، بذريعة أو بأخرى، يجدون أنفسهم اليوم في اشتكاء وشكوى وعتب وتذمر في صفحة أخرى من سيرة الذهول والخوف والخيانة".

اعتقد أن مقال السيدة درغام يعتبر بلا أدنى شك إدانة صارخة للنظام السعودي قبل غيره إن لم نقل اعترافاً سعودياً متأخراً بخسارة المعركة مع إيران استراتيجياً وسياسياً وجيو سياسياً وزعامة. واعتقد أنه بدلاً من لوم الأمريكيين والبريطانيين على تسليم بلاد الرافدين للإيرانيين كان يجب على السعوديين أن يلوموا أنفسهم على سوء تقديرهم للموقف وعدم استشرافهم للمستقبل. فمن أبجديات الوضع العراقي أن الشيعة يشكلون السواد الأعظم من السكان وأنه في اللحظة التي يسقط فيها النظام الذي كان يضبط الطوائف كافة بالحديد والنار تحت مظلة الدولة العراقية الواحدة فإن الشيعة المواليين لإيران روحياً سيتحركون على الفور للسيطرة على زمام الأمور، هذا إذا لم يستثيروا شهية الطوائف الشيعية في البلدان العربية الأخرى كي تحذو حذوهم. وقد ساعد شيعة العراق في ذلك أن السنة تصدوا للغزو الأمريكي وراحوا يقاومونه بضراوة مما جعل الشيعة يبدون في نظر المحتل كحلفاء. زد على ذلك أن التسعة عشر انتحارياً المزعومين الذين فجروا البرجين في أمريكا فيما بات يعرف بأحداث الحادي عشر من سبتمبر معظمهم من السعوديين السنة وليس بينهم شيعي واحد محسوب على إيران. طبعاً لا يمكن اعتبار ذلك السبب الرئيس في تفضيل الأمريكان للشيعة على السنة في العراق أو الاصطفاف إلى جانب إيران على حساب السعودية ، لكنه اعتبار يجب أن يبقى في الصورة ونحن ننظر لما يحدث في بلاد الرافدين.

من الواضح أن السعوديين غاب عن بالهم أن سقوط نظام صدام سيقود إلى تعاظم الدور الإيراني في العراق ومن ثم الخليج. ولا أدري لماذ نسي السعودييون وغيرهم من الخليجيين أنهم مولوا صدام بالغالي والرخيص أثناء حربه مع إيران فقط لكبح جماح الثورة الإيرانية الزاحفة صوبهم وبأن نظاماً كنظام صدام على علاته الرهيبة ورعونته المقيتة يبقى حاجزاً صلباً أمام التدخل الإيراني في المنطقة على الأقل بسبب حقده الأيديولوجي وكرهه التاريخي للفرس. ويرى آخرون أنه كان شراً لا بد منه لحماية البوابة الشرقية التي سقطت تماماً الآن وسيجلب سقوطها الويلات للعرب الذين ساهموا في إسقاطها. لقد غاب عن مخيلة السعوديين أبسط الحقائق السياسية فسخروا كل إمكانياتهم العسكرية واللوجستية والإعلامية لدعم الغزو الأمريكي للعراق دون أن يدروا أنهم سيصلون إلى هذا الوضع الكارثي. لقد كسب الإيرانيون اللعبة. كيف لا وهم الذين اخترعوا الشطرنج تلك اللعبة التي ترتكز على قيام أحد اللاعبين بمحاصرة فيلي وحصاني وقلعتي وبيادق ووزير وملك الخصم ومن ثم يقول له:"كش مات".

ولو اقتصر الدعم السعودي الهائل للأمريكيين في احتلالهم للعراق على التسهيلات العسكرية واللوجستية السرية لهان الأمر، لكنهم راحوا يسخرون امبراطورياتهم الإعلامية الرهيبة للترويج لما يسمى ب"العراقيين الجدد" ونشر خطابهم الطائفي المعادي للعروبة والإسلام تحديداً وخاصة الإسلام في شقه السني. ولا داعي للتذكير بأن الكثير من مواقع الانترنت العراقية الكافرة بكل ما هو عربي وإسلامي تحصل على بعض التمويل والدعم والترويج السعودي بحجة أنها معادية للنظام العراقي "البائد"، لكن بعضها بدأ ينقلب ضد السعوديين الآن بعد تصريحات سعود الفيصل وراح يكيل للنظام السعودي أسوء أنواع الشتائم والإهانات عاضاً اليد التي مـُدت له في السابق. والأنكى من ذلك أن أحد مواقع الانترنت السعودية الشهيرة قد تخصص بفتح صفحاته وتسخير كل إمكانياته للكتاب الطائفيين العراقيين الذين تدثروا بثوب "الليبرالية الجديدة" وراحوا يستخدمون خطاب الشتم والسباب واللغة الغوبلزية المفضوحة للنيل من العرب والمسلمين والتشهير بهم بطريقة فاشية قبيحة. وكذلك فعلت بعض الصحف السعودية الصفراء والخضراء التي هللت للغزو الأمريكي للعراق أكثر مما فعل كنعان مكية المعارض العراقي الذي كان يعتبر أصوات الصواريخ والقنابل الأمريكية فوق بغداد أجمل بكثير من سيمفونيات بيتهوفن. وحدث ولا حرج عن القنوات الممولة سعودياً التي تبنت الاحتلال الأمريكي للعراق وكأنه أشبه بغزوتي "أُحد" و "بدر".

لا شك أنه من حق وزير الخارجية السعودي أن يبكي ويذرف أنهاراً من الدموع على ما حل بالعراق أو بالأحرى على ما حل بالمنطقة. لكن هل ينفع الندم على اللبن المسكوب؟ ألم يقل المثل العربي القديم: "الصيف ضيعت اللبن"؟