- كيف يمكن تلخيص المشهد في الوضع العربي الراهن واين هي سوريا في هذا المشهد؟

غليون:
تعيش المنطقة العربية ازمة تاريخية شاملة نتيجة إخفاقها عموما في الاندراج في دورة الحضارة العالمية الحديثة وإخفاق مشاريع تحديثها المختلفة الاشتراكية منها والليبرالية التي طبقت في العقود الخمسة الماضية. والوجه الأبرز لهذه الأزمة اليوم يمس النظام السياسي الأتوقراطي الذي رعى هذا التحديث في شقيه الأبوي والبيرقراطي معا. وتتجلى هذه الأزمة في توقف عملية التنمية أو تراجع معدلاتها بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين وإفلاس السياسات الوطنية وانهيار مصداقية وشرعية النظم السياسية القائمة وتفاقم الشعور عند السكان بالفراغ السياسي وبالافتقار للقيادة السياسية الحكيمة والقلق على المستقبل وتصاعد التوترات وتفجر النزاعات الداخلية والإقليمية.
ولا ترجع أسباب هذه الأزمة التاريخية لعوامل داخلية فحسب ولكن أيضا لعوامل خارجية يجسدها الضغط المستمر الذي مارسته دول التحالف الغربي على عموم المنطقة لأسباب استراتيجية تتعلق بالصراع على منابع الطاقة وضمان أمن اسرائيل والتأكد من استمرار وجود الوضع في البلاد العربية، التي أظهرت عداءا قويا للهيمنة الغربية بعد الاستقلال، تحت السيطرة. وتشكل سورية اليوم، بعد انهيار نظام صدام حسين في العراق، أحد أهم مواقع التهاب هذه الأزمة بأبعادها الداخلية التي تشير إلى تدهور شرعية النظام والثقة العامة بقدرته على مواجهة التحديات والمشاكل المطروحة على المجتمع كذلك بأبعادها الخارجية التي تتجلى في اشتدادا إرادة التدخل الخارجي في شؤون البلاد بسبب تنامي المخاوف من مضاعفات هذه الأزمة المتفجرة وإسقاطاتها على المصالح الدولية والدول الصناعية بشكل خاص. وهكذا يتجه النظام القائم بالفعل إلى مواجهة عاصفة مزدوجة تهدد باقتلاعه من الجذور وتدفع به نحو عزلة داخلية وخارجية قاتلة. وربما كانت هذه هي المرة الأولى التي يجد فيها النظام نفسه في موقف دفاعي ضعيف جدا لا يترك له أي مجال للمناورة ولا التفكير بأي مشروع آخر سوى كسب الوقت والدفاع عن البقاء.

- ما هي طبيعة الأزمة السورية الحالية؟ وأين تكمن المشكلة؟

غليون:
كل البلدان العربية دخلت في هذه الازمة التي وصفتها للحال وعانت من مضاعفاتها. وقد عرف بعضها بسبب هذه الأزمة حروبا أهلية مدمرة دامت سنوات طويلة. ونجح بعض الأنظمة بسرعة أكبر من غيره في تفكيك القنبلة الموقوتة. فقدم بعضها تنازلات سياسية أو إقتصادية أو ايديولوجية لفك عزلة النظام الداخلية وقام بمساع متواصلة وجدية لفك العزلة الخارجية والربط مع المنظومة الدولية. مما فتح امام هذه الانظمة آفاقا للتخفيف من الأزمة أو للبدء بحلحلة العقد الناجمة عنها وتنفيس التوترات العميقة. ويمكن القول أن أغلب النظم العربية نجحت في السنوات القليلة الماضية ولقاء تنازلات ضعيفة في تكييف نفسها إلى هذا الحد او ذاك مع الوضع الدولي الجديد من أجل أن تحصل على التغطية الاستراتيجية الخارجية وتؤمن المعونات والاستثمارات الضرورية لتحسين أوضاعها الاقتصادية وتفكيك القنبلة الاجتماعية. وقد استفاد عدد كبير من هذه النظم في سبيل الحد من مخاطر انفجار الازمة من عوائد النفط الكبيرة كما استفاد من علاقاته الاستراتيجية التقليدية مع الكتلة الأطلسية للحد من تفاقم الازمة أو تفاقم آثارها على المجتمع. سورية هي البلد الوحيد الذي لم تسعفه الظروف، لا الداخلية ولا الخارجية، في قطع الخطوات الضرورية الأولى لوقف التهاب الأزمة أو الحد من تفاقم آثارها. بل بالعكس، لقد شهدت السنوات القليلة الماضية تفاقما كارثيا للازمة واشتداد مفاعيلها الداخلية والخارجية. والسبب الرئيسي في ذلك هو درجة الجمود والتكلس العالية التي اتسم بها النظام وافتقاره إلى المرونة. فبينما اختارت النظم العربية جميعا استراتيجية المناورة والالتفاف على عوامل الازمة ببعض الانفتاحات الداخلية والخارجية التي لم تكن ذات قيمة فعلية لكنها أعطت الامل بتغيير تدريجي للأوضاع، اختار النظام السوري استراتيجية المواجهة على جميع الجبهات. وربما كان الدافع لهذا الاختيار الشعور المبالغ فيه بالقوة والسيطرة على الوضع الداخلي والإقليمي بشكل لا يمكن تهديده والرهان المستمر على أن النظام يملك من الاوراق الاستراتيجية ما يجعله بمنأى عن القبول بالتنازلات لأي طرف من الأطراف الداخلية والخارجية التي تستهدف إضعاف سيطرته أو مشاركته في القرار. ومما فاقم من آثار هذا الجمود غياب الفكر النقدي والكذب على النفس والتثبت على دروس الماضي والتمسك بالعقيدة الاستراتيجية القديمة التي مكنت النظام من انتزاع هامش مناورة كبير في الحقبة السابقة. هكذا استمر النظام ينام هانئا على فراش انتصاراته وتحالفاته السابقة حتى ظن بالفعل أنه يملك أهلية المفاوضة مع الدول الكبرى كقوة عظمى في الوقت الذي كانت جميع أوراقه تتساقط واحدها بعد الآخر نتيجة الفساد السياسي والإفلاس الاقتصادي وتآكل القوة العسكرية والاستراتيجية والقطيعة المتجذرة بين السلطة والمجتمع والعزلة الإقليمية المتنامية. وفي هذه الحالة كان من الطبيعي أن تقود سياسات التهرب من الاستحقاقات الوطنية والدولية والافتقار إلى المرونة، واللجوء إلى المراوغة واستعراض القوة للتعويض عنها، بسرعة وسهولة إلى فخ أوقع البلاد في سلسلة من المهاوي التي أصبح من الصعب الخروج منها من دون تغيير جوهري في النظام وفي أسلوب قيادة السياسة الداخلية والخارجية.

- تكلمت كثيراً في موضوع الاصلاح في سوريا. هل مازال الاصلاح ممكناً كما ترى، ما هو المطلوب فيه وما هي شروط تحققه؟

غليون:
نحن لم نعد في هذا الظرف أبدا. فلم يعد برنامج الإصلاح جزءا من أي أجندة، أعني لا جزءا من أولويات النظام ولا جزءا من أولويات الدول الغربية، وبشكل خاص الأوروبية، التي كانت تعتقد أن من مصلحتها دعم حركة إصلاح إقتصادي واجتماعي في البلاد في سياق تأمين الحدود الجنوبية للاتحاد الاوروبي وخلق محيط سلمي من حوله. فلا يمكن لأي إصلاح ان يرى النور من دون شرطين رئيسيين. الاول وجود قيادة سياسية يكون بند الارتقاء بنوعية حياة السكان المادية والمعنوية أي التنمية الاجتماعية والاقتصادية في قائمة سلم أولوياتها, في حين أن النظام لا يملك اليوم في حالة الحصار التي يعيشها سوى أجندة واحدة هي الدفاع عن النفس وتوجيه جميع الموارد للحفاظ على البقاء، بما في ذلك لمواجهة احتمالات تفجر الوضع الشعبي أو تصاعد قوة المعارضة. ولا يمكن لقيادة أن تجعل من الارتقاء بشروط حياة المجتمع في قمة أولوياتها إن لم تكن ممثلة للشعب مرتبطة به وواثقة من تعاونه وتأييده. وهو ما لم يمكن الوصول إليه من دون تجديد الاستشارة الشعبية من خلال انتخابات دورية ونزيهة وشفافة. والشرط الثاني التزام الدول الصناعية التي تسيطر على موارد المعرفة والخبرة التقنية ورأس المال والاستثمارات والأسواق معا بدعم برنامج الاصلاح المحلي والمساعدة على إنجاحه. وعندما يفتقر بلد ما لهذين الشرطين يفقد أي فرصة لتحقيق الاصلاح مهما كانت إرادة الحكومة القائمة وتصميمها او بالأحرى تصميم النخبة التقنوقراطية فيها. فالبلد الذي يدخل في حالة حصار أو حرب داخلية أو خارجية يغير أولويات سياسته بالضرورة لصالح حاجات الحرب والدفاع أو الأمن. وبالعكس لا يمكن لبلد أن يجعل من الاصلاح هدفه الأول من دون أن يغير من سياساته بما يسمح بتطوير التعاون والتفاعل مع الكتلة الصناعية وتفكيك التوترات والنزاعات القائمة أو المحتملة معها. وكائنا من كان المسؤول عن تدهور العلاقات بين سورية والبلدان الصناعية، نحن أم هذه الدول نفسها، ينبغي القول إن وصول العلاقات إلى ما هي عليه من التوتر إن لم نقل القطيعة يعني أننا خسرنا معركة الاصلاح الآن، على الأقل في الظروف الراهنة بانتظار ما سيحصل في المستقبل.

- يتم تداول افكار كثيرة حول المعارضة السورية سواء المعارضة داخل سوريا او تلك الموجودة في الخارج. كيف تقيم وضع المعارضة في الحالتين، وماهي امكانية كل منها في احداث تبدلات في الواقع السوري؟.

غليون:

المعارضة السورية ضعيفة في الداخل والخارج معا. وسبب هذا الضعف أنها لم تحظ بأي هامش من حرية الحركة والعمل خلال أكثر من أربعين عاما على عكس ما جرى في معظم البلاد العربية الأخرى. فالمعارضة السورية غير معترف بها وتعتبر من وجهة النظر القانونية غير شرعية وتستطيع الحكومة في أي لحظة حسب قوانين الطواريء المعمول بها أن تعتقل أي ناشط سياسي بتهمة مخالفة القانون وتضعه في السجن. وهو ما جعل الشباب يبتعدون عنها وعن السياسة عموما ليوجهوا اهتماماتهم لامور أخرى. أما المتحمسون منهم لأفكار إصلاحية فتصطادهم بسهولة الحركات السرية المتشددة التي توحي لهم بضمان الأمن من جهة والفاعلية من جهة ثانية.
ينبغي القول أنه حتى ثلاث أو أربعة أعوام سابقة لم يكن أحد يتحدث عن معارضة في الخارج. كانت المعارضة تشير إلى بعض القوى السياسية التي حافظت على بقائها واستمرت تعمل في الداخل بوتيرة بطيئة جدا وأحيانا بعزلة كاملة عن المجتمع. بل لم يكن أحد يتساءل أيضا في ما إذا كانت المعارضة ضعيفة أو قوية، لا في وسط الرأي العام الداخلي ولا الدولي. بدأ الوضع يختلف منذ زمن قصير جدا. فمع تفاقم أزمة النظام في سياق التطورات الداخلية والاقليمية والدولية، وبروز عجز المعارضة الداخلية عن الرد على التحديات التي يفرزها تفكك السلطة وتخبط سياساتها بدأت تبرز في الخارج معارضات متعددة. وفي اعتقادي، كثير من هذه المعارضات الجديدة الخارجية مختلق، الهدف منه حجز مقعد في ساحة السياسة السورية المقبلة او صوغ أداة للضغط على النظام أو إضفاء الشرعية على التدخل الخارجي.
لا أريد بكلامي هذا أن أنفي الشرعية عن المعارضات الخارجية ولا أن أقطع الطريق عليها، لكنني أعتقد أن الرهان في أي تغيير ينبغي أن يقوم على المعارضة الداخلية او بالأحرى تلك التي تملك قواعدها الأساسية في الداخل. فالمعارضة لا تنزل بالمظلات ولا يمكن اختراعها بين يوم وليلة. وهذا يحمل المعارضة الداخلية مسؤولية مضاعفة. فما لم تدرك ضرورة العمل بالسرعة اللازمة على بناء الإئتلاف الوطني الواسع والمطلوب للرد على حاجات التغيير أو لقيادة حركة التغيير وضبط الأوضاع من الداخل فسوف تترك المجال واسعا امام المعارضات الخارجية أو المصنعة في الخارج لملء الفراغ. هدفي أن أقول إن التغيير أمر واقع لا محالة. السؤال : من سيقود عملية التغيير ويقوم بتوجيهها، هل هي قوى داخلية سورية أم قوى خارجية. إن وجود قطب معارضة وطني قوي هو وحده الذي يجعل التغيير لصالح الشعب السوري أو على الأقل يضمن لهذا الشعب أن يشارك بقوة في تحديد طبيعة هذا التغيير وغاياته ويقطع الطريق على التدخل الخارجي أو يحد من احتمالاته.

- تتصاعد الضغوطات الخارجية على سوريا وخاصة من خلال ملفين الاول عراقي يتعلق بموضوع الحدود السورية – العراقية وتسلل المقاتلين الى العراق من خلالها، والثاني لبناني وفيه موضوع الشبهة بمسؤولية أو مشاركة سوريين في اغتيال الحريري. كيف ترى حدود هذه الضغوط. والى أي مدى يمكن ان تذهب؟.

غليون:

أنا من الذين يعتقدون، وكنت قد كتبت ذلك، بأن موضوع التغيير، بمعنى إصلاح النظام، مطروح على النظام السوري داخليا ودوليا قبل اغتيال الحريري وقبل احتلال العراق وفي الوقت الذي كانت العلاقات فيه ايجابية جدا بين النظام نفسه والدول الكبرى التي تضغط اليوم على النظام وفي مقدمها فرنسا والولايات المتحدة. بل إنني أعتقد أن العنف الذي تظهره هذه الدول في ضغطها المستمر على النظام اليوم ينبع في جزء كبير منه من خيبة الأمل العميقة نتيجة عجز النظام عن تحقيق ما كانت تتوقعه وتنتظره منه. وليس لطلب هذا التغيير علاقة كما تقول اجهزة النظام اليوم باستهداف مواقف سورية الوطنية سواء ما تعلق منها بحماية الحقوق السورية في الجولان او في التعامل مع القضية الفلسطينية او مع حزب الله. فقد كان هناك اعتقاد قوي لدى حكومات اوروبة وامريكا معا بأن النظام السوري يلعب دورا ايجابيا بوجوده في لبنان ويضمن الاستقرار على حدود اسرائيل الجنوبية جميعا كما أن من الممكن أيضا أن يكون له دور ايجابي في العراق.
إن ما كانت تنتظره الولايات المتحدة وأوروبة بشكل خاص من التغيير منذ بداية عام ألفين، وأرسلت فرنسا من أجله مستشارين وخبراء في التحديث والإصلاح، هو أن يعيد النظام السوري، الذي يبدو وكأنه لا يزال في بنياته السياسية والاقتصادية يعيش في ماقبل تاريخ الاقتصاد والسياسة المعمول بهما اليوم في بلدان العالم، بناء نفسه بما يسمح للغرب بالتعاون معه ودمجه في الدورة الاقتصادية وفي المعادلة الجيوسياسية الجديدة الشرق أوسطية، أي تبني تجديده وإعادة المراهنة عليه وبموازاة ذلك إخراج سورية من انغلاقها وعزلتها وضمها إلى السوق الدولية المعولمة.
وقد أصبح تجديد النظام في سنواته الأولى موضوعا للتنافس بين الاوروبيين والامريكيين أيضا فطرحت أوروبة مشروع الشراكة المتوسطية لدمج الدول القريبة منها في منظومتها الإقليمية ولو بشكل ضعيف وطرحت الولايات المتحدة مشروع السوق الشرق أوسطية. وكلاهما كانا يحتفظان للنظام السوري بموقع أساسي ومهم في التركيبة الجديدة المنتظرة لعالم ما بعد حقبة الحرب الباردة. وكان بإمكان النظام السوري أن يستفيد من هذه المنافسة عليه وعلى خطب وده بين الأوروبيين والامريكيين ليطلق أهم مشروع إصلاح في المنطقة بسبب ما تتمتع به سورية من موقع وموارد بشرية. لكن سوء قراءة الأحداث من جهة وضيق المصالح السائدة من جهة اخرى، مع قدر كبير من انعدام الخبرة السياسية والمزاودات الرخيصة بالوطنية في سبيل قطع الطريق على حركات المعارضة والمطالبة الداخلية بالانفتاح، بالاضافة إلى تخبط السياسة الامريكية الذي أعقب هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001، كل ذلك منع من تحقيق التغيير والإصلاح المنشود الذي كان النظام نفسه قد تبنى شعاره.
وقد أثار إخفاق النظام في التكيف مع الوضع الجديد وتمسكه بصيغته وسياساته القديمة المتسمة بالانغلاق وعدم الشفافية والتكور على النفس والشك بأي تغيير خيبة أمل عميقة لدى العواصم الغربية. وكان للاعتقالات والعقوبات غير المعقولة وغير المقبولة بأي معيار دولي للناشطين السياسيين والمدنيين وفي مقدمهم العشرة الذين شاركوا في ندوة منتدى الحوار الوطني للنائب رياض سيف في الخامس من سبتمبر 2001 أثر سلبي جدا على رصيد النظام الخارجي. وجاء استمرار عمليات الاعتقال وعجز النظام عن ايجاد صيغة مقبولة للتعامل مع حركة المجتمع المدني التي كان العالم الخارجي ينظر إليها بتفاؤل في سبيل مساعدة النظام القديم على الخروج من جموده بصورة تدريجية وسلمية وتصاعد إجراءات القمع وتكميم الأفواه لتقنع الرأي العام الغربي بانه لا أمل يرجى من الحكم الجديد في تحقيق أي إصلاح. وبدأ صبر الشركاء الغربيين ينفذ بسرعة وخلف الحماس للنظام الجديد والتفاؤل بقدومه حرقة وندم على ما تم من استثمار فيه ورهان عليه.
ومع ذلك لم يتخذ التحالف الغربي أي موقف سلبي من النظام، وظل يدعو للتعامل الايجابي منه. وحتى بعد احتلال العراق، وبسبب التقاطع الواضح بين الموقف السوري والموقف الأوروبي، لم يؤثر الدعم العلني الذي قدمه الحكم للمقاومة العراقية على استقراره ومد يد التحالف الغربي له. ولم تتردد واشنطن في التعاون الأمني معه وتبني موقف تشجيعه وإغرائه بالمساعدات في سبيل توسيع تعاونه معها. إن الأيام الصعبة للنظام لم تبدأ إلا على إثر القطيعة التي حصلت بينه وبين حليفه الرئيسي في الغرب، فرنسا، التي كانت تقدم له الحماية والرعاية والتغطية والدعم، وكان ذلك بسبب تمديد ولاية الرئيس اللبناني لحود من دون تفاهم مع الحلفاء بل ضد إرادتهم وبالرغم من تدخلاتهم لدى النظام السوري لوقف هذا المسار. فبتخلي فرنسا عن النظام ومن ورائها أوروبة وتصاعد شكوك واشنطن بعدم جدية التعاون السوري وباحتمال خسارتها للحملة المكلفة في العراق أصبح الطريق سالكا لتكوين تحالف أوروبي أمريكي ضد دمشق. وهو ما كان عليها أن تحول دونه بأي ثمن.
والواقع أن فرص الخروج من المأزق الذي كان يسير إليه النظام لم تكن قد استنفدت تماما حتى بعد هذه القطيعة. وحتى أشهر معدودة،لم يكن الأمل قد قطع تماما بإمكانية استعادة الثقة وفتح باب الحوار بين سورية والتكتل الأمريكي الأوروبي. لكن الوضع اختلف تماما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري والمظاهرات الشعبية الواسعة التي خرجت في لبنان تطالب بخروج الجيش السوري وبعد خروجه الفعلي. لقد وقع النظام، ولم يعد لأي طرف مصلحة في مساعدة نظام معطوب ومخيب للأمل على الخروج من عثرته. فالولايات المتحدة التي تعيش هوس هزيمة عسكرية منكرة في العراق تجد في هذه الوقعة فرصة لا تقدر بثمن كي تحول النظام السوري الضعيف إلى كبش فداء وترمي عليه المسؤولية كلها في إخفاقها الذريع هناك. كما أن فرنسا التي شعرت بأنها خدعت مرتين تعتقد بأنها قد أعطت للنظام فرصا كافية حتى يظهر فيما إذا كان قادرا على إصلاح نفسه وأنها أصبحت مقتنعة الآن بأن أي جهد جديد يبذل على هذا السبيل سيكون مضيعة للوقت. باختصار، في حالة الضعف التي وصل إليها النظام، لم يعد أحد، لا في الولايات المتحدة ولا في أوروبة يشعر بمصلحة في إعادة الحوار معه أو الرهان عليه، وذلك بصرف النظر حتى عما إذا كان مسؤولا بالفعل عن اغتيال الحريري ودعم قوات التمرد في العراق أم كان بعيدا عن ذلك. فالحصان الذي يقع ويكسر ساقه في ميدان السباق لا يعول أحد على شفائه ولا يراهن عليه.

- في ضوء تصعيد الضغوط الخارجية ووجود الازمة الداخلية، تزايد الحديث عن مستقبل سورية. ما هي سيناريوهات الوضع السوري واحتمالاته؟.

غليون:
يعتقد الغربيون أن الضغط المستمر والمتواصل على النظام سوف يدفع في إطار العزلة والشكوك التي تحيط به وبمستقبله إلى عملية فرز من الداخل. ولا أستبعد ان يبذلوا أيضا جهودهم الخاصة للمساعدة على هذا الفرز. وليس المقصود بالفرز إنهاء النظام ولكن بالعكس إنقاذه عن طريق حركة تصحيحية جديدة يقوم بها فريق أكثر عقلانية، تماما كما أفرزت أزمة النظام البعثي في السبعينات، وعبر أزمة إرسال الجيش السوري إلى الأردن للقتال مع قوات المقاومة الفلسطينية ضد السلطة الأردنية، فريقا عسكريا قويا بقيادة الرئيس السابق حافظ الأسد سيطر على الوضع واستبعد فريق صلاح جديد لينقذ النظام ويعيد التفاهم المقطوع بينه وبين القوى الدولية والعربية المؤثرة في المنطقة، وفي مقدمها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي والمملكة العربية السعودية في ذلك الوقت. وأعتقد أنهم سيستمرون في الضغوط والعقوبات حتى تبرز تلك الشخصية او ذاك الفريق الذي يقدم مشروعا لتغيير سلوك النظام وتحويله من الداخل. لا أعتقد أن لدى الغريين فرضية عمل أخرى غير هذه. لكن ربما حاولوا أن يقوموا ببعض التحركات والتحرشات العكسرية للتشجيع على ذلك أو إقناع بعض الأطراف داخل النظام بضرورة الانفكاك عنه والعمل لتغييره.
كما هو واضح، تستبعد هذه الفرضية أمرين: حصول انفجار شعبي يطيح بالنظام كما أطاحت به في بيروت التظاهرات العارمة التي أعقبت مقتل رفيق الحريري وإمكانية المراهنة على المعارضة الداخلية والخارجية معا في سبيل إسقاط النظام من دون أن يعني ذلك استبعادها من الصورة. وهي تهدف إلى الحفاظ على نظام البعث الراهن الذي يبدو في نظر الغربيين الأكثر استجابة لأهداف الحفاظ على الاستقرار في سورية والمنطقة مع ضمان أن يعيد الفريق الحاكم الجديد هيكلة النظام ويحقق برنامج الإصلاح الذي أخفق العهد الراهن أو تردد في تحقيقه. السؤال هل يمكن أن يتكرر عام 2005 ما حصل عام 1970؟ لا أحد يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال. ولا أحد يستطيع أن يؤكد في ما إذا كان مثل هذا الفريق الاصلاحي الداخلي قادر على التبلور والتحرك من داخل النظام أو في ما إذا كان الشعب السوري لا يزال يملك من الديناميكية والحيوية ما يمكنه من أن يكون الفاعل الأول في هذا التغيير. وفي هذه الحالة الأخيرة لن يمس التغيير السياسات فحسب ولكن بنية العلاقة التي تربط النظام-الدولة بالمجتمع والشعب بشكل عام، وربما فتحت الطريق واسعا أمام بناء الديمقراطية السورية المنشودة.