قد تكون انتفاضة الاقصى حدثا عابرا بقدر ما نقبل بذلك في سلوكنا, وقد تكون حدثا مفصليا بقدر ما نصمم على على ذلك ونتعامل مع استحقاقاتها. وللحق يقال ان دولة اسرائيل تعاملت مع انتفاضة الاقصى وبالاخص ما جرى داخل الخط الاخضر كحدث مفصلي ليس في علاقتها مع الجماهير الفلسطينية مواطني الدولة بل في تعامل الاخيرين معها, او امكانيات تعاملهم مع الدولة مستقبلا.

في انتفاضة الاقصى المتزامنة ومن دون قرار او تنسيق من طرفي الخط الاخضر رسم الفلسطينيون مواطني اسرائيل الحدود مع الدولة مخترقين قواعد لعبة المواطنة وأسرها, وأزالت هذه الناس الحدود مع باقي اجزاء شعبنا الفلسطيني خاصة الجزء الاكبر في الضفة والقطاع وبثّت أملا كبيرا لدى الجزء الاخر في الشتات.

ما ميز انتفاضة الاقصى ان الناس كانت سيدة القرار, وهذه هي احدى اهم نقاط قوة الشعب الفلسطيني في صراعه مع اسرائيل ومع المشروع الصهيوني. لم تنتظر الناس قرارا بالانتفاض او بمواجهة الدولة ولو انتظرت لما كانت انتفاضة. ولم تخرج الناس الى الشارع والساحات انطلاقا من كونهم مواطني دولة اسرائيل بل جزءا من الشعب الفلسطيني وبخروج الناس اكدت انها جزء من القضية الفلسطينية ايضا.

في انتفاضة الاقصى لم "نتضامن" مع شعبنا الفلسطيني بل تقاسمنا الهم الفلسطيني مع باقي اجزائه وكنا على استعداد لتقاسم الثمن.
وفي هذه الانتفاضة اكتشفنا ايضا قوة الحراك الجماهيري في البعدين القومي والديني المجتمعين في الدفاع عن شعبنا وعن الوطن وعن الوجود. وهي طاقة حملتها الناس وراكمتها بتسارع عظيم من جانبي الخط الاخضر. هذا الحراك والذي بخلاف الانظمة لا تستطيع اسرائيل هزمه مهما بلغت دمويتها وقمعها ومهما بلغ الدعم الرسمي الامريكي غير المحدود لعدوانها.

لقد برز نهجان قياديان ونموذجان قياديان واحد الذي اندمج بالناس وسار معها في مواجهتها, وآخر بما فيه بعض رموز لجنة المتابعة الذي راهن على المواطنة بأن تحميه ووجد طريقه سريعا ومن وراء الناس وبخلاف ارادتها بالتأكيد, الى بلدة معاليه هحميشاه ليشارك فيما يسمى "فوروم معاليه هحميشاه" مع عناصر من مجلس الامن القومي ويوسي بيلين, وغيره ولينبثق عن ذلك اللقاء قرار "الاربعة مليارات شيكل" والذي ارادت حكومة ايهود براك واجهزتها من خلالها شراء صمت جماهيرنا وخلق مصلحة مادية بان تعود هذه الجماهير الى العمل فقط وفق قواعد لعبة المواطنة والمساواة الشكلية. وبعد خمس سنوات من لقاء "فوروم معاليه هحميشاه" اعتقد ان من حق الناس ان تعرف ما دار فيه ومن شارك فيه ولماذا تم التعامل معه كعمل لا يحق للناس معرفة ما تم فيه نيابة عنها وبعيدا عن ارادتها.

ان احد المخاطر التي تواجهنا داخليا هو النهج لدى اوساط قيادية وقيادات بلدية في التركيز على "انقاذ ما يمكن انقاذه" وحصر موضوع الصراع مع الدولة في "الاداء" ضمن قواعد اللعبة الاسرائيلية وليس في مواجهة جوهر الدولة العنصري الدموي والاستيطاني. انها ذات الاصوات التي لهثت وراء "خطة الاربعة مليارات شيكل" التي لا تحتلف كثيرا عن كذبات ايهود براك الاخرى, وحصر المطالب في المساواة في الميزانيات وهنا تنتهي حدود مطالبنا. وهو نهج قد غذى مزاجا شعبيا خطيرا يطالب بفصلنا عن القضية الفلسطينية والاهتمام بـ"قضايانا".
وهذا النهج هو الذي علّق جل طموحاته (ليس طموحات الناس) على لجنة اور, التي بنى عليها البعض اوهامه وعمليا حصر السؤال في سلوكنا ضمن حدود اللعبة الاسرائيلية ومعادلة المواطنة والقانون, التي قد تكون كافية من وجهة نظر الدولة لكنها لا يجوز ان تكون معيار سلوك جماهير شعب مضطهد.

ومن هنا جاء مطلب الحماية الدولية الذي عارضته في حينه غالبية القوى السياسية ولجنة المتابعة التي لم تجرؤ ان تطرح مسألة الشرعية في صراعنا مع اسرائيل نحن فلسطينيي ال48.

لقد استغلت الدولة ضعفنا الاقتصادي وارتباطنا المطلق بها وعلى هامش الاقتصاد الاسرائيلي لتزيد من ضغطها ومحاولة اعادتنا الى داخل حدود المواطنة القسرية وخارج حدود علاقتنا مع الوطن والدفاع عنه. ومن هنا تاتي اهمية افكار الاستقلالية الاقتصادية او الادارة الذاتية او المجتمع العصامي في بناء بنية نضالية لضمان وجودنا في وطننا وتعزيزه. بعد ان اصبح واضحا ان المواطنة الاسرائيلية لا تحمينا ولا تضمن وجودنا في وطننا, بل ان اسرائيل تريد منها بعد ان فرضتها قسرا في اوائل الخمسينات من القرن الماضي, ارادت منها ان تفصلنا عن وطننا وتجعلنا رعايا في "وطنهم" مشوّهي الهوية والانتماء والحضارة.

انتفاضة الاقصى في جوهرها الفلسطيني انطلقت كحالة شعبية في مواجهة جوهر اسرائيل. وهي انتفاضة الشعب الفلسطيني, وان ميزنا شيء في هذا السياق هو اننا اندمجنا فيها ليس كواطني اسرائيل بل كجزء من الشعب الفلسطيني يتقاسم الهم والثمن الفلسطينيين في مواجهة المشروع الاسرائيلي الصهيوني. انها ليست انتفاضة مطلبية ومن اجل مطالب, بل حراك شعبي فلسطيني في مواجهة تراكم الغبن التاريخي والحاضر ومخاطر المستقبل وتحدياته.