<<حوارنا الوثيق مع سوريا أعطى نتائج إيجابية. وبفضل نصائحنا خرجت سوريا من لبنان. التغيير في سوريا لا يكون عبر عزلها بل إقامة حوار معها>>. ربما كانت هذه آخر كلمات <<إيجابية>> صدرت عن مسؤول تركي رفيع هو رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان. كان ذلك أثناء زيارته الى واشنطن في مطلع حزيران الماضي ولقائه المتوتر مع الرئيس جورج بوش.

لكن منذ تلك اللحظة، استرعى نظر المراقبين، ما يشبه العد العكسي ل<<شهر العسل>> بين أردوغان والرئيس السوري بشار الأسد، والذي استمر منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في خريف 2002. ويسجل لأردوغان وحزبه أنه رغم الضغوط الأميركية الشديدة، حاول أن يتصدى لها أو يمتص زخمها أو يلتف حولها. مع ذلك يبدو أنه حتى لدولة إسلامية <<عظمى>> مثل تركيا، حدود للصمود والاحتمال. ووسط توزيع أدوار متقن، بين العسكر والمتشددين القوميين والانفصاليين الأكراد ودعاة الاعتراف بالإبادة الأرمنية، كانت لمبة (شعار حزب) العدالة والتنمية يخفت ضوئها، مهددة سلطة أردوغان بظلمة حالكة.

منذ منتصف حزيران، أي منذ زيارة أردوغان الى لبنان، والتي قيل إن ملفها الأساسي كان تسهيل إعطاء شركة أوجيه اللبنانية 55 في المئة من قطاع الهاتف الثابت في تركيا وهذا ما حصل، والمسار العام للعلاقات التركية العربية، والتركية السورية خصوصاً، يشهد تراجعاً لافتاً ومقلقاً.

- إلغاء الرئيس الأسد، بناء لرغبة أردوغان، الزيارة الخاصة التي كان سيقوم بها الى تركيا خلال شهر آب الماضي، والتي انفردنا في صحيفة <<السفير>> بذكرها حينها.

- تراجع التصريحات التركية المعادية لأميركا وإسرائيل إلى حد اختفائها.

- انقطاع الزيارات المتبادلة بين المسؤولين الأتراك والسوريين على مستوى رفيع والتي لم تنقطع شهرياً منذ سنتين ونصف.

- البرقية المفاجئة لأردوغان في 23 آب والتي هنأ فيها أرييل شارون بانسحابه من غزة وشكره على <<خطوته المهمة>> على طريق <<السلام>> في الشرق الأوسط، فيما أردوغان نفسه يعرف أن خطوة شارون خلاف ذلك تماماً.

- المبادرة التركية الأكثر مفاجأة في جمع وزيري خارجية باكستان وإسرائيل في الأول من أيلول الجاري، في اسطنبول، وبرعاية وزير الدولة محمد أيدين. وقد ذكر حينها سيلفان شالوم ان <<انعقاد اللقاء في تركيا ليس مصادفة، فتركيا قامت بدور مفتاح في إقامة علاقات بين إسرائيل ودول مسلمة أخرى>>. ونقلت صحيفة <<شالوم>> الناطقة بلسان الطائفة اليهودية في تركيا في العاشر من أيلول الجاري ان اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة مسرور جداً من الدور المركزي لتركيا في عقد اللقاء الباكستاني الإسرائيلي.

- الأنباء التي صدرت عن مسؤولين إسرائيليين باحتمال فتح مكاتب لإسرائيل في السفارات التركية المعتمدة في العالم الإسلامي. ولم يصدر أي نفي رسمي تركي لهذه المعلومات.

- أيضاً تتسارع خطى إقامة خط أنابيب تحت البحر بين تركيا وإسرائيل لنقل الغاز الطبيعي والنفط عبر تركيا الى الموانئ الإسرائيلية.

- الى ذلك، فإن ارتباك أنقرة تجاه انتخاب محمودي أحمدي نجاد رئيساً لإيران، وكذلك تعيين منوشهر متقي وزيراً للخارجية، مؤشر آخر الى اضطراب في علاقات تركيا مع <<حلفاء الأمس>>.

- والمؤشر الآخر وقد لا يكون الأخير، المعلومات المهمة التي نشرتها صحيفة <<ميللييت>> الاثنين 26 أيلول، على لسان مراسلتها ياسمين تشونغار، التي تعكس مناخات الإدارة الأميركية. وتقول تشونغار، إن أردوغان لم يستجب لرغبة الرئيس الأسد لقاءه في نيويورك خلال القمة العالمية التي انعقدت الأسبوع الماضي. وفي كواليس واشنطن ان الذي كان سيحسم ذهاب الأسد الى نيويورك هو إمكانية لقائه مع كل من أردوغان وفلاديمير بوتين رئيس روسيا. ولما كان رد أردوغان، خصوصاً، سلبياً، قرر الأسد البقاء في دمشق. وان الرئيس الوحيد الذي وافق على الاجتماع بالأسد هو أحمدي نجاد. وتذكر الصحيفة ان إدارة بوش كانت مسرورة من موقف أردوغان من لقائه مع الأسد. في المقابل أجرى أردوغان لقاء مع سعد الحريري، الذي وصفته المراسلة بأنه <<ليس مثل أي نائب آخر>> بل السياسي الذي أعلن أن أصابع دمشق مغمسة في دم رفيق الحريري. وقالت الصحيفة ان سعد الحريري طلب من أردوغان دعم تركيا للتحقيق المرتبط باغتيال والده لأن مثل هذا الدعم مهم جدا مع تطور عملية التحقيق.

أكثر من ذلك لفتت الصحيفة الى أهمية زيارة ستيفين هادلي مستشار الأمن القومي الأميركي التي قام بها الى تركيا وارتباطها بالسياسة الأميركية لتفكيك النظام السوري، خصوصاً أن رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة دعا الى استقالة إميل لحود وتحدث عن <<إدراك واسع في لبنان بوجود تورط سوري>> (في اغتيال الحريري)، مباشرة بعد اجتماعه (السنيورة) بهادلي. وذكرت الصحيفة ان <<شائعات>> نيويورك حول صفقة بين دمشق وواشنطن تقول إن الرئيس الأسد مستعد لتسليم أي مسؤول سوري على ألا يقتربوا منه (الأسد). وان أساس هذه الشائعات أن إدارة بوش (وفرنسا) خائفتان من أن يستلم الأصوليون الإسلاميون السلطة في الإطاحة ببشار الأسد. وبالتالي فإن واشنطن لم تعثر بعد على بديل للنظام الحالي في سوريا.

يؤشر مسار التطورات أعلاه خلال الأشهر الثلاثة الماضية إلى تحول في مواقف حزب العدالة والتنمية من العلاقات مع سوريا. ومع أن أردوغان كان صادقاً في علاقاته (السابقة!) مع دمشق، إلا أن الجيوستراتيجيا التركية، وهشاشة الوضع الداخلي، تعيد سياسة حكومة أردوغان الى <<ثوابت>> ما قبل وصوله الى السلطة من علاقات جيدة مع أميركا وإسرائيل، وحساسية تجاه إيران والعرب، والحاجة لدعم الغرب وأوروبا (فرنسا خصوصاً) تجاه هدف العضوية الأوروبية والتي تبدأ المفاوضات بشأنها الاثنين المقبل. والبعض، حتى، يفسر موقف جاك شيراك المعارض لموقف تركيا من قبرص والعضوية الكاملة بموقف أردوغان الإيجابي من العلاقة مع سوريا.

تذهب أسئلة العلاقات التركية السورية في اتجاهات كثيرة.

والأمل أن تكون هذه المؤشرات السلبية مجرد زوبعة في فنجان، فأردوغان هو الأكثر إدراكاً أن جزءاً أساسياً من دعم قاعدته له، داخل تركيا، هو موقفه الإيجابي من قضايا الحق العربي: معارضته الاحتلال الأميركي للعراق، إدانته الشديدة لإرهاب أرييل شارون، إدراكه لحقائق التاريخ والجغرافيا مع سوريا والعرب.
إن استمرار أردوغان في انسجامه مع هذه <<الهويات>> وحده الذي يتيح له استمرار تعاطف الرأي العام التركي والعربي والإسلامي معه، واستمراره هو.. في السلطة.

مصادر
السفير (لبنان)