يكثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الوحدة الوطنية وأهمية صيانتها وتعزيز مقوماتها، ربما تأثراً بارتفاع حرارة وتواتر الضغوط الغربية وشيوع اعتقاد بأن العدو الخارجي لا يحقق أغراضه إلا عبر استغلال الخلافات والتناقضات بين أبناء المجتمع الواحد، أو لعل الأمر محاولة لاحتواء حال جديدة من نضج مصالح المجتمع وتطور مواقف المعارضة باتت تشكل عبئاً على منظومة السيادة السياسية. فما كانت جوقة الملوحين برايات الوحدة الوطنية مضطرة لمثل هذه التعبئة لو لم تشعر بعجز ما، في إعادة إنتاج سيطرتها على المجتمع.
ولا عجب أن تسمع في كل تعليق أو مداخلة دعوة حارة للوحدة الوطنية وتحذيراً شديداً من خطورة أية خلخلة في المجتمع تضعف لحمته وقدرته على رد الأعداء وإفشال مخططاتهم، كذا!! ليغدو من السهل تفسير أي انتقاد لمواقف السلطة الحاكمة أو دعوة لإصلاحات سياسية ديمقراطية على أنها إخلال بالوحدة الوطنية ومؤامرة لشق الصف وتفكيك المجتمع وتمكين الأجنبي منه.

تاريخياً، سادت في سورية رؤية مغرضة لمفهوم الوحدة الوطنية روجت لها النخبة الحاكمة والدائرون في فلكها، جوهرها إخضاع كل شيء لهدف مقاومة الإمبريالية والصهيونية، وصار هذا الهدف مع الزمن أشبه بالمقدس وقد مسخ الى شعار تعبوي بسيط بأن قوة الوطن من قوة السلطة ومنعته من منعتها، ليغدو كل من يخالف السلطة أو ينتقدها مارقاً وخارجاً عن الإجماع وربما خائناً وعميلاً. هذا أفضى الى بناء "متحد وطني" صوري، قسري وفوقي، معادٍ على طول الخط للديمقراطية والحريات، وضع إشارة مساواة ومطابقة بين السلطة والوطن، وأشاع تعارضاً مشوهاً بين الحرية والفكرة الوطنية مسوغاً مختلف أساليب القمع والاضطهاد وسيادة طويلة الأمد لحالة الطوارىء والأحكام العرفية.

لكن مع انهيار مناخ الحرب الباردة وقواعدها، والأهم مع دروس الحرب على العراق وتداعيات احتلاله، ثمة جديد فرض نفسه بقوة وساهم في صياغة رؤية مختلفة للوحدة الوطنية تجد أن نضج الوطن وتماسكه لا يتحققان إلا في مناخ الديموقراطية واحترام حقوق الانسان، بما يعني قيام لحمة تحتية مبنية على أسس الحرية والاندماج الطوعي لقوى المجتمع وفئاته المختلفة في مواجهة تحديات البناء والتنمية وما يهدد البلاد من أخطار.

المجتمع السوري ليس مجرد كم من الأفراد أو الجماعات، هم قصر ودون سن الرشد يحق لنخبة حاكمة تأبيد وصايتها على شؤونهم ومقدراتهم تحت شعاراتها الوطنية العامة، بل هو مجتمع تعددي قومياً وطائفياً وغني بالتنوع الفكري والسياسي، فيه شتى مذاهب المسلمين والمسيحيين وقوميات تتباين ثقافاتها مع العرب كالأكراد والشراكس والتركمان والأرمن والآشوريين. مثل هذه التركيبة عرضة للتصدعات والشروخ والتفسخ الى بنى متخلفة طائفية وقبلية وعشائرية، بدأنا نلمس نذرها في غير مكان ومحلة، في أحداث القامشلي والقدموس مثالاً وربما ننتظر الكثير إذا لم يسارَعْ الى الاعتراف بخصوصية مكوناتها واحترام حقوق هذه المكونات على قاعدة مفهوم المواطن المتساوي.
إن ما نحتاج إليه لبناء متحد حقيقي ليس شعارات تعبوية بل إجراء تحوّلات ديموقراطية في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتعزيز الدعائم الأساسية التي تعضد المجتمع وتؤكد حضوره ككيان فاعل. ولا ينفع هنا الصراخ حول الوحدة الوطنية وأهميتها إذا لم يشعر كل من يعيش على هذه الأرض بأن له مصلحة حقيقية في الدفاع عن وجوده في المجتمع، وعن وطن يقدم له ما يصون حرياته وكرامته وقوته اليومي.

ويصعب على مجتمع كمجتمعنا أن ينعم بلحمة وطنية طالما لم يبدأ بتحرير السياسة من السيطرة الشمولية، من الوصاية والنمطية ومن سيادة الرأي الواحد والصوت الواحد، بما يعني تقديم تنازلات جريئة على صعيد حقوق المواطنة والعدالة وسيادة القانون، والقبول بالتعددية والاختلاف كمقدمة لاغنى عنها لصياغة عقد اجتماعي متوازن يوفق بين منازعات بشر تتباين همومهم ومصالحهم وضامناً للجميع حقوقهم على قدم المساواة في المشاركة السياسية وإدارة الشؤون العامة. فشعور الانسان بالحرية والمساواة هو أساس الثقة بجدوى انتمائه لوطنه وصمام أمان التماسك الداخلي والحافز المشجع لمختلف القوى الاجتماعية والسياسية كي تمنح الهم العام الأولوية أمام حساباتها الذاتية والضيقة.

فإن يقال إننا نريد وحدة وطنية يعني في ما يعنيه العمل لتكون كل الانتماءات ما قبل الوطنية، سواء العشائرية أم الطائفية أم الأثنية، هي الأضعف والأقل حضوراً أمام انتماء أقوى وأرقى هو الانتماء الى الوطن والثقة بالدولة ومؤسساتها الديموقراطية، بينما يستحيل تحقق هذا الأمر في ظل استمرار غياب الحريات المدنية والسياسية والتحفظ على المئات من معتقلي الرأي وغياب الصحافة الحرة والتداول السلمي للسلطة وحق المعارضة في الوجود، وطالما لم يقتنع كل فرد بأن حقه مصان ومتساوٍ مع الآخر وأن ليس ثمة من يستطيع التعدي عليه كائناً من كان.

من جهة أخرى ألا تستدعي صدقية النداء من أجل الوحدة الوطنية الإقرار أولاً بالتعددية الثقافية واحترام مختلف مكونات المجتمع؟! وكيف يستقيم الحديث عن الوحدة الوطنية دون الاعتراف بمشكلة الأقلية القومية واحترام حقوقها، دون إنصاف عشرات الألوف من الأكراد ومنحهم حقهم الطبيعي في الجنسية السورية، دون حلول عادلة لتداعيات التهجير القسري للعديد من أسرهم والاستيلاء على أراضيهم!!..

ثم بأي وجه يحدثوننا عن الوحدة الوطنية ويبدون حماسة متناهية لهذا الدواء السحري وهم لا ينبسون ببنت شفة عن ظاهرة الفساد وشيوعها، ولا يفكر أحدهم بأوهام التوفيق والجمع من خلال "شعاره الوحدوي" بين قوى الشرفاء والفقراء وبين مفسدين يسرقون ثروات الوطن ويهدرون مقدراته بطراً!!..

أم هل سأل دعاة الوحدة الوطنية أنفسهم أين الجهود المبذولة لخلق مناخ صحي يعزز اللحمة؟!.. وكيف يتعاضد البشر مع استمرار التمييز الصارخ بينهم، حين يبخس حق غالبيتهم في فرص متكافئة ويطاح بقيم الكفاية والنزاهة لصالح الولاءات والعلاقات المتخلفة والمحسوبية؟!.. بل أي تماسك وطني نبحث عنه في بلد لا يشعر فيه معظم أفراده بالأمان لمستقبل أبنائهم ويلمسون لمس اليد كيف تقتصر الامتيازات على فئة قليلة جداً من أصحاب النفوذ على حساب أغلبية ساحقة يكويها العوز والحرمان؟!..

ربما لا يختلف اثنان على أن تحقيق تقارب نسبي بين الطبقات في الدخل والحياة المعيشية هو واحد من العوامل التي تعطي الوحدة الوطنية زخمها واستقرارها، وأن أكثر ما يوهنها هو انحسار وزن الطبقة الوسطى وتقلص حضورها كما صارت حالها اليوم جراء ازدياد الفوارق واتساع الفجوة بين شريحة واسعة من الفقراء تزداد فقراً وقلة قليلة من الأغنياء تزداد غنى؟!..

عندما نقض هتلر معاهدة السلام وأعلن الحرب على الاتحاد السوفياتي، سارع ستالين إلى تعديل خطابه السياسي وطرائق إدارته للبلاد مخففاً، وان شكلاً، من حضور العقلية الوصائية والقبضة القمعية، وتوجه إلى الشعوب السوفياتية بعبارته الشهيرة "أيها المواطنون" كإشارة للرغبة في تدشين فترة جديدة من الانفتاح والمساواة بين الناس، وان جاءت متأخرة وقصيرة، لكنها ربما ساعدت، إضافة إلى عوامل أخرى، في إحياء "علاقات وطنية جديدة" لا تقوم على القمع والإكراه والتمييز.

مصادر
المستقبل (لبنان)