الدستور في أي بلد هو قانون القوانين ، من روحيته وأهدافه ومبادئه تشتق القوانين التفصيلية ، وهو مرجعيتها ، ويعتبر العقد الذي ارتضاه المواطنون لتنظيم دولتهم ومؤسساتهم التي تدير أمورهم التشريعية والتنفيذية والقضائية ، من أجل ذلك كان لزاما على الدستور أن يعبر عن التوافق الوطني منذ البداية وأن لاينشأ خارج ارادة فئة اجتماعية هامة ثم يتم تطبيقه ضد ارادتها حتى لو حاز على الأغلبية في انتخابات حرة نزيهة .

للأسف فان السياق الذي جرى فيه اعداد مسودة الدستور العراقي الذي سيطرح للتصويت الشهر القادم يتسم باقصاء فئات اجتماعية هامة وواسعة عن عملية اعداد مسودة الدستور وهذا بحد ذاته يطعن في شرعية الدستور .

في مقدمة الدستور التي يرجع اليها عادة باعتبارها مصدر الالهام لمقاصد الدستور ، نجد في البداية فقرة تحدد بصورة غير مباشرة لمن يتوجه الدستور ومن يمثل ، تقول الفقرة ( نحن أبناء وادي الرافدين ... استجابة منا لدعوة قياداتنا الدينية والوطنية ..واصرار مراجعنا العظام .. زحفنا لأول مرة في تاريخنا لصناديق الاقتراع بالملايين ..مستذكرين مواجع القمع الطائفي ..الخ الخ ..) .

تتضمن تلك الفقرة عدة دلالات :

الأولى : أن الدستور هو استمرار وتتويج للعملية السياسية التي مثلت الانتخابات أهم محطاتها .

الثانية : أن روح الدستور مؤسسة على رغبة وارادة وتطلعات الملايين التي شاركت في الانتخابات .

الثالثة : وكنتيجة لما سبق فان الفئات التي قاطعت الانتخابات هي خارج الدستور وهذا يفسر ماتم من اقصاء لممثلي تلك الفئات في لجنة اعداد الدستور .

الدستور بهذا المعنى هو دستور المنتخبين وليس دستور المقاطعين ، هو دستور الذين شكلوا المعارضة في حكم صدام وليس دستور كل الشعب .

رغم محاولة واضعي الدستور تخفيف وقع الفقرة السابقة في الفقرات اللاحقة ، لكن المغزى السابق يعود للظهور بصورة اوضح في المادتين /132/ ، /133/ المتعلقتين باجتثاث البعث ، واذا أخذنا بالاعتبار أن منتسبي حزب البعث في العراق هم بالملايين كما هو الحال في سورية ، يتبين لنا ماذا يعني اقرار الدستور العراقي باستمرار عمل الهيئة العليا لاجتثاث البعث ( الفقرة 132) بينما تنص الفقرة / 133/ على عدم جواز ترشيح من يشمله أحكام اجتثاث البعث لجميع المناصب في الدولة ومجلس النواب والهيئات القضائية والمناصب الأخرى المشمولة بقانون اجتثاث البعث .

هكذا فان محاكم التفتيش الجديدة التي نشأت برعاية الاحتلال الأمريكي قد تم تشريعها ، ليس في قوانين الدولة ولكن في نص الدستور.

خطورة تكريس اجتثاث البعث في الدستور في كونه يغلق باب المصالحة الوطنية والتسامح والوفاق الوطني ، ويبني الدولة على أساس الثأر والعزل والاقصاء ليس لبضعة مئات من المواطنين ، ولكن للملايين .

مقدمة الدستور اضافة للفقرتين /132/ و/133/ تؤسس لمفهوم فئوي للدستور ، انه دستور الذين ثاروا على حكم صدام ودفعوا غاليا ثمن ثوراتهم ، وليس دستور الذين ارتضوا بحكم صدام أو شاركوا فيه مهما كانت تلك المشاركة .

ورد في المادة /3/ : ( العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب ، وهو جزء من العالم الاسلامي ، والشعب العربي فيه جزء من الأمة العربية ).

هنا اصرار على اخراج العراق من الدائرة العربية كدولة رغم أن أكثر من 80 بالمئة من سكانه عرب أقحاح ، ولست أدري كيف تتحدد هوية وانتماء دولة اذا لم يكن كافيا ل 80 بالمئة من سكانها تحديد تلك الهوية ؟ واذا لم يكن العراق عربيا فكيف تكون فرنسا فرنسية وألمانيا ألمانية ؟

ينص الدستور على وجود ثلاثة أنظمة ادارية للحكم :

- حكومة اتحادية .

- فدراليات جرت تسميتها بأقاليم .

- محافظات لم تنتظم في أقاليم يتم ربطها بالحكومة الاتحادية .

هذا الجمع بين النظام الفدرالي والنظام المركزي يبدو مستغربا من ناحية ، ويؤسس لوضع غير متوازن وغير مستقر . فاعتماد الفدراليات يفترض انتظام الأقاليم جميعها في فدراليات وهكذا يتم انتخاب مجلسين اتحاديين مجلس نواب ( لكل مئة ألف مواطن نائب بغض النظر عن أي شيء آخر ) ومجلس شيوخ سمي في الدستور العراقي بالمجلس الاتحادي ينتخب فيه عن كل أقليم عدد محدد من النواب ( في أمريكا نائبان عن كل ولاية ) ويشكل المجلسان معا أساس الحكم الاتحادي . وجود محافظات خارج ذلك الاطار سيجعل من تبعيتها للحكومة الاتحادية مسألة اشكالية .

لايمكن فهم مغزى هذا النظام الثلاثي غير المسبوق سوى بوصفه سعيا لحرمان بعض المحافظات من الامتيازات والتأثير في القرار مما ستمتع به محافظات أخرى حين تشكل فدرالية تتمكن من خلالها من اقتسام السلطة مع الحكومة الاتحادية وفوق ذلك جعل السلطة الاتحادية حكرا على الأقاليم ، وهذه اشارة أخرى لروح الدستور التي لاتتسم بالتسامح والعدالة.

بطريقة أخرى يقول الدستور لمن لا يقبل الفدرالية : أنتم لاتحبون الفدرالية ، حسنا ابقوا في أماكنكم كمحافظات لكننا سنشكل الفدرالية بدونكم ولامانع لدينا في بقائكم دون فدرالية داخل الدولة العراقية .

حين دخلت القوات المسلحة الأمريكية العراق كان هدفها المعلن هو القضاء على نظام صدام واكتشاف أسلحة التدمير الشامل ، وحين سمحت تلك القوات بنهب واتلاف الوزارات والمؤسسات الرسمية عدا وزارة النفط تساءل البعض هل الدولة العراقية أيضا مستهدفة ؟ ، وحين قامت سلطة الاحتلال بتسريح الجيش العراقي ظن البعض أن الأمر لايعدو أن يكون خطأ تكتيكيا ، لكن ما أصبح جليا اليوم هو أن الولايات المتحدة دخلت العراق وهي تحمل رؤية استراتيجية على درجة كبيرة من الوضوح ، ويتمثل الهدف الرئيسي لتلك الاستراتيجية في تدمير الدولة العراقية بكل مكوناتها ، واعادة تشكيلها من أسفل الهرم الاجتماعي.

تفكيك الكيان العراقي ، والدفع بالهويات الطائفية والعرقية نحو المقدمة ، هذا هو السياق الذي أتى ضمنه الدستور محاولا اضفاء الصفة الدستورية على عملية التفكيك ، وظيفة الدستور العراقي التمهيد لحرب أهلية أو انقسام لارجعة فيه ، مايقوله واضعوا الدستور الذين يمثلون الائتلاف الموحد( حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية وحزب أحمد الشلبي ) والحزبين الكرديين بقيادة الطالباني والبرزاني للآخرين هو الآتي :

أنتم قاطعتم الانتخابات وتركتم أنفسكم دون ممثلين ، حسنا فعلتم ، هذا هو الدستور الذي وضعناه في غيابكم ، ومثلما جرت الانتخابات في ظل مقاطعتكم ، ستتم الموافقة على الدستور ، ومن لايعجبه ذلك فليشرب البحر .

لكن ماذا يعني ذلك في الواقع ؟

ببساطة يعني وضع الطرف الآخر أمام خيارين :

اما القبول بدستور لايمثل مصالحهم ومبادئهم ولم يكن لهم في وضعه يد ، وبالتالي دخولهم السياسة كطرف مغلوب على أمره .

أو الخروج على دستور البلاد وبالتالي وضعهم سياسيا خارج القانون والدفع بهم للتمرد ، ولأن الخيار الأول يبدو مستبعدا ، فعلينا القبول باحتمال أن تكون الغلبة للخيار الثاني.

هكذا سيتحول الانقسام السياسي – الطائفي حسب المخطط الأمريكي ،( وأرجو أن لا يقول لي أحد ان أمريكا غائبة عن السياق) أقول سيتحول الى انقسام سياسي – طائفي –دستوري .

ما نشاهده في الواقع أن مشروع الدستور قد عمق الانقسامات داخل العراق على نحو غير مسبوق ، ودفع الفئات التي تم اقصاؤها دفعا نحو العنف ، ليس العنف في مواجهة الاحتلال ، لكن العنف في مواجهة القوى العراقية المرتبطة بما تراه تلك الفئات مؤامرة لتهميشها سياسيا واقتصاديا وربما حرمانها من أهم ثروات العراق وهو النفط .

لقد تمت تغذية التيارات التكفيرية بما يكفي من مشاعر الاحباط والغضب والتعصب كرد فعل على العزل والاقصاء والدستور والممارسات الجارية على الأرض ، بينما يحاول الأمريكي الذي تسبب بكل ذلك عن وعي وتخطيط أن يبتعد بالتدريج عن مسرح الصراع ليوفر دم قواته المسلحة على حساب دم الشعب العراقي الفقير من مختلف الطوائف.

مصادر
موقع الرأي (سوريا)