النقاش الدائر في أوساط اليمين الإسرائيلي حول غزة يشبه النقاش الدائر في أوساط اليمين الأميركي حول العراق.

لقد تصدّع حزب <<ليكود>> وبات من الصعب عليه الاحتفاظ بوحدته بين تيارين يتباعدان.

المحتجون على أرييل شارون، وبنيامين نتنياهو على رأسهم، يأخذون عليه خطة الفصل في غزة، وتكاثر تصريحاته حول الدولة الفلسطينية، وتلميحاته إلى القبول ب<<خريطة الطريق>>. يقولون إن هذه العناوين لم تكن في برنامج <<ليكود>>، ويشيرون، عن حق، إلى أن بعضها من اختراع <<حزب العمل>>.

يسند هذا الجناح رأيه إلى أن إسرائيل قوية إلى حد أنه لا يجوز لها تفكيك مستوطنات، ولا إخلاء مستوطنين، ولا تقديم أي شكل من أشكال <<المكافأة>> للإرهاب الفلسطيني. وهم يلومون الأوساط النافذة في الحكومة على عدم تطبيقها المقولة الزاعمة <<أن ما لا يحل بالقوة يحل بالمزيد منها>>. يعتبرون أن الانكفاء يشكّل سابقة، وأنه يشجع التطرف الفلسطيني، وأنه يمهّد لتحويل القطاع إلى قاعدة تمثّل تهديداً وجودياً لإسرائيل. يتظاهر هذا التيار بعدم المبالاة ازاء الإدارة الأميركية ورغباتها معتبراً أن التجربة تعلم أن إسرائيل قادرة على فرض الأمر الواقع، وأن الدول الغربية والعربية تضطر في النهاية إلى الرضوخ.

في المقابل يسند شارون رأيه إلى أن إسرائيل قوية إلى حد أنها لا تخشى إعادة الانتشار في غزة طالما أنها هي التي ستحدد، لاحقاً، قواعد اللعبة.

ويقول الشارونيون إن هذه الخطوة ستزيد إسرائيل قوة، وتعزز التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وتستميل الدول الأوروبية، وتسقط جدار السلبية العربي والإسلامي. يضيفون أن غزة غير موجودة في أي مشروع توسعي صهيوني بما في ذلك الذي يتبناه أصدقاء نتنياهو. وبناء عليه فإن القوة، أو المزيد منها، في غير موضعها لعدم ارتباطها بمصلحة وطنية مباشرة، ولأن القصد، بالفعل، هو توفير الشروط السياسية لاستخدام العنف المطلوب لإخماد أي مقاومة في القطاع ولاقتطاع ما يجب اقتطاعه في الضفة.
إذا كان نتنياهو يمثل اليمين القومي والديني الأقصى ذا الشحنة الإيديولوجية العالية، فإن شارون يريد تطعيم هذا اليمين إياه بشحنة عملية تدفع إلى التمييز بين الممكن والمأمول.
النقاش الدائر في اليمين الأميركي يدور في أجواء مشابهة عند التطرق إلى العراق واحتمالات الوضع فيه.

فالقوميون الأميركيون المتشددون، أو المحافظون الواقعيون، باتوا في جو إدارة الأزمة الناجمة عن التغيير الذي أحدثوه. لقد تراجعت طموحاتهم الخاصة ب<<المنارة العراقية>> من أجل القبول بتسويات مع بلد حمل إليهم المفاجأة تلو المفاجأة. لا يعتبر هؤلاء أن <<النموذج العراقي الديموقراطي>> سلاحهم للانقضاض على دول الجوار ومحاسبتها وفق معايير احترامها لحقوق الإنسان. يرون أنه يتوجب تحديد الأرباح والخسائر في العراق، والتصرف حيال الدول المجاورة، حصراً، حسب خضوعها أو تمردها على التعريف الأميركي المباشر للمصالح الوطنية والاستراتيجية.

في المقابل، نجد أن <<المحافظين الجدد>> يحذرون من عودة هذه <<الواقعية الكيسنجرية>> إلى السياسة الخارجية الأميركية، ويرفضون، جملة وتفصيلاً، منطق <<إدارة الأزمة>>. ففي عرضهم أن واشنطن مطالبة بتعزيز وجودها العسكري في العراق، وبكسر عنق المقاومة، وبتأمين الشروط اللازمة لبناء ديموقراطية موالية للغرب وصديقة لإسرائيل. يضيفون إلى ذلك أن العداء للقيم الغربية مصدره بلدان مثل السعودية ومصر في حين أن بلداناً مثل إيران وسوريا تعادي، في آن معاً، القيم والمصالح الغربية. لذا يصبح واجباً تأديب الجميع. كما يصبح واجباً تعبئة قدرات الأمة الأميركية من أجل أن تحسم لصالحها، في العراق وجواره، هذه الجولة الأولى من <<الحرب العالمية الرابعة>>.

نجد انعكاساً لهذا النقاش ضمن اليمين الأميركي في السجال المفتوح بين مجلة <<المحافظين الجدد>>، <<ويكلي ستاندرد>>، وبين وزير الدفاع دونالد رامسفيلد والمدافعين عنه. إنه سجال يوحي بوجود بداية تصدع في هذا الائتلاف الذي دعا إلى حرب العراق وخاضها.
ثمة نقطتا تمايز بين ما يدور في إسرائيل وما يدور في أميركا.
الأولى هي أن الثانية لم تبلور حتى الآن أي دعوة إلى انسحاب من طرف واحد من العراق. الثانية هي أن جورج بوش، وهو بيضة القبان، لا يزال في موقف متأرجح. فهو، من جهة، يؤيد مطالب الحد الأقصى التي يرفعها <<المحافظون الجدد>>، ولا يعترض، من جهة ثانية، على سياسة المحافظين الواقعيين القاضية بعدم تعزيز الوجود العسكري بحثاً عن حسم للنزاع. وربما كان هذا هو التناقض الأبرز في سياسة الرئيس، وهو تناقض مرشح للاتساع بعد إعصاري <<كاترينا>> و<<ريتا>> والاضطرار إلى مداواة آثار تراجع الشعبية، ومسايرة النزعة الانعزالية، وتقديم أجوبة مقنعة على الذين يحذرون من هذا النزف المتمادي في الإنفاق والمنعكس عجزاً متصاعداً في الميزانية.
يجدر القول إن السجالين في إسرائيل والولايات المتحدة لا يدوران في دائرتين مغلقتين. إن الوشائج التي تشد بعض اليمين الأميركي إلى بعض اليمين الإسرائيلي، والعائدة إلى عقود، تجعل من الطرفين تياراً إيديولوجياً وسياسياً واحداً اعتبر أن تفجيرات 11 أيلول فتحت له فرصة التحوّل إلى سياسة كونية. إن هذا اليمين الأميركي الأقصى لم يضع في حساباته، مرة، احتمال التباين الحاصل الآن ضمن اليمين الإسرائيلي. غير أن هذا موضوع آخر.

مصادر
السفير (لبنان)