سنشهد الشهر المقبل بداية نهاية عهد تحكم الاجهزة الأمنية والاستخباراتية العسكرية بالحياة السياسية في لبنان وفي سورية. قد تتكاثر محاولات الاغتيال وتتنوع كي تدب الذعر في القلوب وتملي الفوضى على البلاد. لكن الأشهر الآتية ستدشن محاكمات لا سابقة لها، وستحرر كامل المنطقة العربية من انماط اللاعقاب واللامحاسبة، وستدق المسمار الأخير في كفن الاغتيالات السياسية والتأديبية والانتقامية وأنواع الاغتيالات كافة. انها فترة الاستحقاقات، بكل ايجابياتها وسلبياتها، وهي تتطلب الوعي والحكمة والمنطق في موازين المخاوف والتوقعات. ففي نهاية المطاف، ومهما آلت اليه المرحلة الانتقالية، فإن محطة الوصول ليست بالضرورة سيئة أبداً سوى للذين تحكموا وحكموا بالإذلال والاغتيال.

الذين تورطوا في اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري يعرفون تماماً مصيرهم وقد يرتأون ضرب استقرار لبنان قبل صدور تقرير «اللجنة المستقلة الدولية للتحقيق في العمل الارهابي» التي يترأسها القاضي الالماني ديتليف ميليس. أولئك الذين ضلعوا في الجريمة يعرفون تماماً ماذا سيحتويه تقرير ميليس المتوقع صدوره في 25 الشهر الجاري. يعرفون اكثر من اي طرف آخر ماذا سيتضمنه التقرير لأنهم مطلعون على الحقائق ولأن التقرير سيكشف الحقيقة عبر الأدلة والاثباتات.

الأرجح انه لا يوجد أحد، الى جانب ميليس وفريقه وخبرائه، يعرف تفاصيل ما سيتضمنه التقرير من استنتاجات سوى أولئك الذين لعبوا دوراً في اقتراف الجريمة أو تنظيمها أو الإيحاء بها أو التغطية عليها أو محاولة محو الأدلة. كثيرون يخشون هذه الفترة من الآن وحتى صدور التقرير. بعضهم يتوقع تصعيداً خطيراً وبعضهم يتخوف من الإحباط إذا استمرت التوقعات بدور دولي يحل مكان الدور المحلي للحكومة اللبنانية في مواجهة أو احتواء التصعيد المنتظر.

ما على اللبنانيين ان يدركوه هو ان العالم مع لبنان، لكنه لن يكون البديل عن اللبنانيين في صون استقراره. هناك استعداد لدى الأسرة الدولية، عبر مجلس الأمن، لمد العون المستمر سواء في استصدار القرارات للمحاكمة على العمل الارهابي المتمثل في اغتيال الحريري أو عبر دعم ميليس ولجنته واستنتاجاته حتى وان كانت قنبلة تهز أنظمة أو تطيحها.

فلا مجال للصفقات إذا جاء تقرير ميليس بإدانات مع أدلة واثباتات. لقد فات الأوان على الصفقات منذ العرض الأخير الذي وصل الى دمشق قبل ثلاثة اشهر والذي شابه حل «لوكربي»، وذلك من خلال ترك المبادرة للقيادة السورية للتقدم بالافراد أو بالاجهزة التي يجوز ان تكون تورطت في اغتيال الحريري، الى المحاكمة العادلة. فات الأوان على الصفقات لأن ديتليف ميليس في صدد الإعداد لكتابة تقريره، ولا تجرؤ أي دولة على إبرام الصفقات في هذه المرحلة المتأخرة من التحقيق. وميليس، كما يُعرف عنه، لا يبرم الصفقات السياسية، ولأنه واع تماماً لإمكان اعتباره عثرة أمام الصفقات السياسية، يمكن الجزم بأنه حفظ وصان الأدلة والاثباتات كي تكون الشاهد على الحقيقة حتى في حال تعرضه هو لمحاولة اغتيال.

البعض في الأوساط الديبلوماسية قلق من احتمال توسيع رقعة سلاح الاغتيال ليشمل الاجانب بهدف حشد الرأي العام في بلادهم أو دفع المؤسسات والعاملين فيها الى مغادرة لبنان هلعاً. لكن هذا لن يحدث، فلقد أُتخذ القرار بعدم السماح لمثل هذا الارهاب ان يكافأ عبر الهرب. بل العكس، فأي تعد من هذا النوع سيصعد ويوسع العقاب.

لذلك، هناك استعداد لدى مجلس الأمن للنظر جدياً في تكليف «اللجنة المستقلة الدولية للتحقيق» بأن تساعد الحكومة اللبنانية في التحقيق في الاغتيالات الاخرى وفي محاولات الاغتيال التي حدثت في لبنان، وذلك بعد محاولة اغتيال الزميلة مي شدياق.

من واجب المؤسسات والنقابات الاعلامية، اللبنانية والعربية والدولية، ان تطالب الأمين العام كوفي انان ورئيس مجلس الأمن الدولي وحكومة رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، بأن يستفاد من خبرة وخبراء «اللجنة المستقلة الدولية» للتحقيق في اغتيال الزميل سمير قصير ومحاولة اغتيال مي شدياق.

ومن الضروري للنقابات والمؤسسات القضائية ان تحشد الأفكار وراء أفضل أنواع المحاكمة وأسرع عقاب للارهابيين الضالعين في كل جرائم الاغتيال. ومن المفيد للبنان ان يستعين بالاسرة الدولية في مثل هذه الأمور وان تتقدم حكومة السنيورة، كخطوة مستقلة عن توقيت تقرير ميليس، بالطلب الرسمي الى مجلس الأمن بوضع كل الاغتيالات تحت مسؤولية «اللجنة المستقلة الدولية» التي تعمل بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية. فمثل هذا الاجراء يوجه رسالة حازمة الى الذين يعتزمون القيام بالمزيد من الاغتيالات، فحواها ان محاكمتهم بصفتهم ارهابيين تأتي بقرار دولي وبمراقبة وتحقيق ومتابعة دولية لكل تحركاتهم.

وكي تكون التوقعات من المساهمة الدولية في حياة لبنان اليوم عملية ومعقولة وواقعية، يجب الإدراك أولاً ان أحداً لا يعد قوات تدخل دولية تتوجه الى لبنان لمساعدته في مرحلة قد تكون احدى أخطر مراحله، اي من الآن وحتى صدور تقرير ميليس.

فالأمن اللبناني في هذه المرحلة مسؤولية لبنانية صرفة. والقرار الأمني يجب على الحكومة اللبنانية اتخاذه بلا خوف وبلا أي تردد على الاطلاق. الجميع يعرف ان حجماً هائلاً من السلاح وصل الى فصائل فلسطينية تستعد لعمليات كبرى بهدف ضرب الاستقرار الأمني الداخلي للبنان. على الحكومة اللبنانية ان تتخذ كل اجراء أمني، وقائي أو هجومي، لمنع نجاح هذه الغايات. لا مجال للتخوف والتردد في حال لم توافق أطراف لبنانية مهمة، «حزب الله» مثلاً، على تولي الحكومة اللبنانية مهمات الحسم الأمني ضد اي فصائل فلسطينية تضمر للبنان الفوضى وتعمل لحساب من يريد له الضرر.

الأمل بأن حكمة «حزب الله» ستجعله يستنتج ان هذا ليس أبداً وقت رفع راية مقاومة الاحتلال الاسرائيلي عبر الفصائل الفلسطينية الموجودة في لبنان. فهو يدرك ان هذه الفصائل التي تسلمت السلاح الثقيل لا تضع القضية الفلسطينية في رأس أولوياتها، ولا هي في صدد تحرير فلسطين من خلال ضرب استقرار لبنان. وهو يعرف ان أي «حماية» أو «تبرير» لمثل هذا التطور سيُفسر، لبنانياً ودولياً، على انه حماية للذين ارتكبوا جريمة اغتيال رفيق الحريري من المحاسبة والمحاكمة. «حزب الله» أكثر وعياً من ان يرتكب حماقة كهذه، خصوصاً ان جميع قادة المنطقة، بمن فيهم الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد، رفع غطاء الحماية عن اي طرف ارتكب الجريمة، بغض النظر عمن هو، أكان في سورية أو في لبنان. وهو قال علناً في مؤتمر صحافي في الأمم المتحدة ان «اي لجنة تبحث حقاً عن التحقيق بعدالة وتعرّف العناصر المتورطة سنتعاون معها في إطار قدراتنا وضمن الإطار الدولي. وإننا سندين هذه العناصر بغض النظر عمن هي».

«حزب الله» يقع اليوم في الامتحان الأصعب، إذ أنه متهم من جانب البعض بالرغبة في حرب أهلية ومذهبية بأي طريقة كانت كي يتسنى له الاحتفاظ بسلاحه بدلاً من الاضطرار الى تفكيك ميليشياته وتجريدها من السلاح كما يطالب القرار 1559. نوعية تصرفه نحو الفصائل الفلسطينية على نسق الجبهة الشعبية الموالية لدمشق، وكيفية تجاوبه مع ضرورة بسط الحكومة اللبنانية سلطتها الأمنية في كل انحاء لبنان هما ما ستكشفان توجهات «حزب الله» الحقيقية وما سيشهد له التاريخ به. انه على المحك لاختيار ما يريد بوضوح تام الآن. فهو إما مع لبنان أو عليه. هكذا هي المعادلة هذه الايام في فترة الاستحقاقات المقبلة.

فليس أمام الحكومة اللبنانية خيار آخر سوى القيام بخطوات استثنائية للسيطرة على الأمن في البلاد، وإلا لانتصرت الفوضى واللااستقرار. ليس أمامها خيار استدعاء قوات دولية، فحتى لو كان في ذهن الأسرة الدولية ارسال قوات، فإن برنامج الاغتيالات والتفجيرات لن ينتظر ما تتطلبه الموافقة على مثل هذه القوات أو تشكيلها من وقت. فهذا ليس خياراً في هذه المرحلة الصعبة حتى لو توافرت النية بإيفاد حماية دولية في شكل قوات. وهي ليست متوافرة الآن لأن الاسرة الدولية غير مستعدة للقيام بدور تستطيع الحكومة اللبنانية القيام به. لذلك، من الحكمة لجم التوقعات الباهظة والاقرار بالواقعية من الناحية الأمنية، فما سيقدمه العالم هو الدعم للجيش اللبناني ولقوات الأمن اللبنانية، لكنه لن يحل بديلاً عنها لا على الحواجز ولا في مواجهة مع الفصائل الفلسطينية.

لكن سبل كبح طموحات هذه الفصائل عدة، سياسياً ومعنوياً. فالشعب الفلسطيني تحت الاحتلال لا يريد ان تستخدم معاناته من أجل غايات تدميرية. لذلك، فمن المفيد ان يُدعى وزير خارجية فلسطين، ناصر القدوة، لزيارة عاجلة الى لبنان تلي دعم رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس للقرار 1559 بكل عناصره، بما فيها تجريد الفصائل الفلسطينية الموجودة في لبنان من السلاح، أثناء اجتماعه في القاهرة بمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة المكلف مراقبة تنفيذ القرار 1559، تيري رود لارسن.

وكما ان من المهم حشد الضمير الفلسطيني، الشعبي والحكومي، كذلك من المهم تعبئة الضمير العربي على الصعيدين لمنع الاستنجاد بالعروبة للاحتيال على نتائج تحقيق ميليس وللوقوف في وجه محاولات ضرب استقرار لبنان أكانت عبر عناصر فلسطينية أو بقرارات سورية أو بحسابات لبنانية.

جميع قيادات الدول العربية الفاعلة، من مصر الى الأردن والسعودية، مستعدة لحجب «الغطاء» العربي عمن يكشف التحقيق تورطه في اغتيال الحريري، فرداً كان أو نظاماً أو دولة. حتى جامعة الدول العربية، كما جاء على لسان الأمين العام عمرو موسى في حديث الى «الحياة» ملتزمة المرجعية الدولية ولا ترى مجالاً لمرجعية عربية بديلة تحت أي ظرف كان. فالكل في حال تأهب، يتجنب الحكم المسبق، ينتظر تقرير ميليس، يراقب بقلق ماذا ستأتي به المرحلة الانتقالية على لبنان وماذا ستأتي به مرحلة ما بعد الانتقالية على سورية.

تكاد الخيارات أمام القيادة السياسية في دمشق وبعبدا تنحصر في خيارين: اما انتظار نتائج التحقيق وتقبل سيناريوات المحاكمة والانقلابات في حال اثبت التحقيق ضلوع الدولة بجريمة الاغتيال او استباق التقرير عبر التنحي الطوعي ومغادرة البلاد الى دول مستعدة للاستقبال تجنباً للمحاكمات والانقلابات.

السيناريو الثالث المستبعد هو تبرئة الدولة اللبنانية والدولة السورية. فمنطقياً لا يمكن التحقيق ان يطلب وضع اربعة جنرالات لبنانيين وراء القضبان ما لم تكن لدى ميليس أدلة دامغة ملموسة تقدم ضدهم في المحكمة. ولا يمكن ان يتورط أربعة جنرالات لبنانيين في عملية اغتيال رئيس وزراء بلادهم من دون معرفة رؤسائهم في لبنان ودمشق.

هذا منطقياً. أما القصة الحقيقية لما حدث يوم ارتكبت جريمة اغتيال الحريري، فإن الذي يعرف حذافيرها هم الذين قاموا بها.

ديتليف ميليس سيحكي لنا الحكاية كاملة في تقريره، مهما حاول الجناة قطع الطريق على الحقيقة.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)