يعرف اللبنانيون على تنوع انتماءاتهم الطائفية والمذهبية وعلى اختلاف مواقفهم السياسية ان تمديد ولاية رئيس الجمهورية العماد اميل لحود الذي تم على النحو المعلوم أوائل ايلول من العام الماضي ان غالبيتهم الكبيرة لم تكن مع هذا الامر. ويعرفون ايضا ان ما يعيشونه من تداعيات سياسية وامنية على مستوى الداخل وما يرونه من تفاعلات على مستوى الخارجين الاقليمي والدولي كان التمديد المذكور السبب المباشر لها من دون اغفال اسبابها الاخرى المتصل بعضها بانقسامات الداخل اللبناني وبعضها الاخر بالصراعات العربية – العربية والعربية – الاسرائيلية والعربية – الاميركية وخصوصا بعدما صارت اميركا في قلب المنطقة العربية منذ عام 2003. ويعرفون ثالثا او بالاحرى لا يستطيعون ان يتجاهلوا وجود مسؤولية معنوية وسياسية للرئيس لحود عن التطورات السلبية التي حصلت في البلاد منذ نحو اثني عشر شهرا وفي مقدمها جريمة العصر التي اودت بالرئيس رفيق الحريري مع ما سبقها واعقبها من جرائم بعضها نجح كليا وبعضها نجح جزئيا وما قد يتبعها لاحقا من جرائم مشابهة. وقد جاءت توقيفات القضاء اللبناني بطلب من لجنة التحقيق الدولية عددا من قادة الاجهزة الامنية لتحول هاتين المعرفة وعدم التجاهل نوعا من الاقتناع. ويعرفون رابعا انه لو ترك "المقررون" غير اللبنانيين في ايلول الماضي الاستحقاق الرئاسي يمر وفقا لرغبات اللبنانيين لربما تلافى لبنان دخول مرحلة عدم الاستقرار التي يعيش المنفتحة على المجهول، وكل مجهول يخيف بل يرعب، او لربما نجح في احباط محاولات ادخاله اياها على افتراض وجود محاولات من هذا النوع. ويعرف اللبنانيون خامسا واخيرا ان انتقال بلادهم من هذه المرحلة الخطيرة الى مرحلة اكثر استقرارا واكثر انفتاحا على التوصل الى حلول او على الاقل الى تسويات لمشكلاتهم الداخلية حتى التي لها ابعاد وخلفيات وتعقيدات خارجية معظمها اقليمي لا يمكن ان يتم من دون استبدال رأس الهرم في لبنان اي حامي الدستور ورمز وحدة اللبنانيين رئيس الجمهورية.

لكن اللبنانيين يعرفون الى كل المفصّل اعلاه ان عودة الرئيس اميل لحود من بعبدا الى بعبدات ليس بالامر اليسير لا بسبب التعقيدات القانونية والدستورية التي يمكن ايجاد الحلول لها اذا اجمع اللبنانيون على ذلك عبر ممثليهم "المتنوعين" ولا بسبب عناده وتصلبه واصراره على الاستمرار لان الظروف المحلية والخارجية قد تدفعه الى المرونة وتاليا التجاوب، بل بسبب امور عدة اخرى اولها ان اخلاء الساحة الرئاسية في هذه المرحلة لا يقدم ولا يؤخر او بالاحرى لا يساعد في حل المشكلات الكثيرة التي يتخبط فيها لبنان حاليا. وانه يصبح ضروريا عندما يكون تتويجا لسلسلة من الاعمال والخطوات تضع لبنان على الطريق الفعلية لاستعادة العافية ولمعاودة مسيرة اعادة البناء السياسي اولا ثم الاقتصادي فالاعماري او بالاحرى لتصويبها لان المتضررين منها حرفوها عن خط سيرها خلال الاعوام الخمسة عشر الماضية. وثانيها، الاتفاق على رئيس جديد للجمهورية قادر على قيادة المرحلة الجديدة بكفاءة وصدق واخلاص بعيدا من المزايدات وقادر ايضا على الايحاء بالثقة للناس هم الذين كادوا ان يكفروا بكل احزابهم وسياسييهم وحركاتهم ومسؤوليهم بل بكل من تعاطى الشأن العام في وطنهم ان لم يكن وصلوا الى مرحلة الكفر فعلا. وهذا يعني ان استقالة الرئيس لحود او تخليه عن موقعه هما جزء من الكل. والكل هو الاتفاق مسبقا وفي وقت واحد على الاستقالة وعلى هوية من يحل مكان المقدم عليها. وحتى الان لا يبدو ان ذلك متيسر او متوافر لاعتبارات كثيرة متناقضة. والاتفاق المذكور لن يتم التوصل اليه اذا لم يكن المسيحيون طرفا فيه بسبب طبيعة التركيبة الطائفية في البلاد.

طبعا، لا بد ان يكون المسلمون طرفا فيه ايضا. لكن اقتصار حسم موضوع الرئاسة الاولى عليهم يبعد هذا الحسم بل يجعله مستحيلا. والفاعلون المسيحيون الآن، ومع احترامنا للجميع يمكن اختصارهما باثنين. البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير والعماد ميشال عون زعيم "التيار الوطني الحر". طبعا، ربما يكفي اتفاق المسلمين المتنوعين بانتمائهم المذهبي باعتبار ان اختصار الاتفاق على فريق مذهبي واحد لا يكفي، مع "الجنرال" لتوفير التغطية المطلوبة وللقيام بالتغيير الرئاسي. ويكفيها بالتأكيد اتفاق المسلمين اياهم مع البطريرك صفير للقيام به، علما انه من المستحسن ان يشمل الاتفاق الاثنين ومعهما سائر الفاعليات المسيحية. اما ثالث الاسباب وليس اخرها فهو عدم اكتمال الاستحقاقات الكبيرة والخطيرة التي يشهدها لبنان حاليا والتي لها كلها تشعبات اقليمية ودولية او ابعادا كهذه وخلفيات.

ما هي المواصفات الرئاسية التي يحتاج اليها لبنان في هذه المرحلة او بالاحرى في المرحلة التي يفترض ان تلي حسم كل ما يجري حاليا وتاليا تفاهم "الشعوب" اللبنانية على مسيرة واحدة او على الاقل مشتركة نحو لبنان الغد؟

لا نريد الاسترسال في التنظير على هذا الصعيد. يكفي ابداء صفتين اساسيتين ضروريتين لهذه المرحلة او للاخرى المقبلة. الاولى ان يكون الرئيس العتيد مدنيا. اي ان لا يكون عسكريا. ولا يعكس ذلك موقفا سلبيا من قائد الجيش الصديق العماد ميشال سليمان المعروف بواقعيته وعملانيته ووطنيته في آن واحد والذي اثبت دائما وخصوصا منذ ايلول الماضي وحتى الان حسا رفيعا بالمسؤولية الوطنية وحرصا عميقا وكبيرا على المؤسسة التي يقود وعلى الشعب اللبناني كله من خلال مواقف صعبة تسببت له بسلبيات كثيرة اقليمية وداخلية معروفة والذي لا يزال يحتاج اليه لبنان الآن وهو على اهميته مواجهة اعاصير نتيجة كل ما يجري وفي مقدمها نتائج تحقيقات لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس الحريري، علما ان سليمان لم يوح باي رغبة علنية او ضمنية في الوصول الى الرئاسة الاولى. كما لم يوظف موقعه ومؤسسته لهذا الغرض. لكنه يعكس خيبة امل عند اللبنانيين او عند غالبيتهم على الاقل من العسكر في السلطة رغم "الكفاءات" الكثيرة لبعضهم. ولا يعكس الاصرار على صدقية الرئيس المقبل موقفا سلبيا من العماد ميشال عون الذي صار سياسيا وبامتياز والذي يقول كثيرون من مؤيديه واخصامه انه اختمر سياسيا خلال نفيه الطويل في فرنسا. بل يعكس خوف اللبنانيين او غالبيتهم من التجربة مرة ثانية سواء معه او مع اي عسكري آخر. ذلك ان تجربته في السلطة اي تجربته السياسية عام 1989 – 1990 على ظروفها الصعبة لم تكن مشجعة لاسباب يسال عنها هو كما يسأل عنها غيره. ولا يستطيع اللبنانيون تحمل تجربة جديدة له في السلطة نفسها لان لا احد يضمن نجاحها اي عدم تكرار الماضي باساليب مختلفة. كما ان الانصاف يقتضي القول ان لا احد "يسوكر" فشلها. لكن المرحلة الراهنة لا تحتمل التجارب ومعها اللبنانيون. اما الصفة الثانية فليست ان يكون الرئيس المقبل من حلفاء سوريا سابقا او من غير هؤلاء الحلفاء. ذلك ان اللبنانيين كلهم بسياسييهم والذين من هؤلاء طامحون للرئاسة الاولى او مرشحون لها مؤمنون بعلاقة خاصة مع سوريا رغم مرارة الماضي والحاضر لانها وحدها تثبت استقرار بلادهم واستقلالها. بل هي ان يكون هذا الرئيس من غير الذين "اشتروا وباعوا" وعذرا لاستعمال هذا التعبير مع سوريا يوم كانت سيدة لبنان والذين يحاول معظمهم ان "يشتروا وان يبيعوا" مع غيرها من قوى محلية وخارجية بعدما خرجت منه في ظروف معلومة. وهي ايضا (اي الصفة) ان يكون الرئيس المقبل من الذين صمدوا اثناء الـ15 سنة الماضية على رفض سيطرة سوريا على لبنان او ادارته وعلى التمسك بعلاقة مميزة معها وعلى النظر الى لبنان على انه وطن الجميع لا يمكن ان يستعيد حياته وتألقه من دون مشاركتهم كلهم ومن دون مساهمتهم كلهم على اساس من التوازن وتكافؤ الفرص والعدالة والمساواة في الحقوق والواجبات والنزاهة والحرية والصدق مع الذات ومع الآخرين.

طبعا، قد يعتبر الكثيرون ذلك تنظيرا في بلد مهلهلة طبقاته السياسية على تنوعها وفي بلد وضعه المجتمع الدولي تحت رعايته وفي بلد لا يزال اللاعبون الاقليميون الذين خسروا فيه او خسروه يرفضون تقبل الخسارة ويسعون الى تعويضها، قد يعتبرون ان الاختيار الرئاسي اذا وصلنا اليه قد يكون اما تكرارا للماضي من حيث تسوية توصل المقبول على "علاته" الى قصر بعبدا وليس الاكثر جدارة وصلاحية لهذا الموقع المهم واما الى إقدام الخارج الدولي المهتم على "تعيين" رئيس جديد للبنان. والامران صعبان. ولا يزيد في صعوبتهما الا اذا تصرف القادة والزعماء اللبنانيون بمسؤولية بعيداً من المصالح والاغراض فهل يفعلون؟

مصادر
النهار (لبنان)