من موقعنا الحياتي العملي نحن سكان هذا العالم الثالث، لسنا متأكدين يقينا ان إعصارا اجتاح جنوب الولايات المتحدة مدمرا نيو اروريلنز مدينة الجاز والبلوز، فما وصل إلينا هو عبارة عن صور وتقارير أنتجتها الآلة الإعلامية الإمبريالية سابقا والكافرة حاليا، وليس لدينا أية فكرة عن إمكانيات الفبركة التي تسلط علينا تارة بالحقائق وتاراة بالوهم... مع ان الوهم بمساندة القوة العاتية يصبح حقيقة ولعلنا أكثر شعوب الأرض خضوعا وتماهيا وخدمة للقوى العاتية، فلا العقل ولا البصر ولا اي من الحواس يشفع لنا في مقاربة حقيقة الأشياء، ولكن وبغض النظر عن ان كارثة كاتارينا خيال أم حقيقة فان التعاطف الإنساني واجب من واجبات الإنسان كي يكون إنسانا، لذلك ومع يقيني اشخصي ان كاتارينا حصل وخلف دمارا ومآس تستحق التعاطف والتعزية.

ولكن وعلى ضفة أخرى، ومن خلال التعليقات والتنويهات والاستنتاجات التي تظهر "كتارينا" كأمنية لشعوب أفقرتها وأهانتها الولايات المتحدة الأمريكية، تنحو المأساة نحو الفانتازيا الوهمية العصابية، فهناك من ذهب إلى حد ان كاتارينا هو انتقام من الله عز وجل، وآخرون اكتشفوا سوء الإدارة الأمريكية وانكشافها في ألازمات، وفريق ثالث لاحظ الجشع الأمريكي الشركاتي في تهافت الشركات لقضم حصتها في إعادة اعمار المدينة المنكوبة، وفريق ربما ثامن او عاشر لاحظ التفرقة العنصرية والفقر والتطبق الاجتماعي والوحشية في الدفاع عن الممتلكات والى ما هنالك من مثالب تلتصق بالاجتماع البشري على الطريقة الأمريكية.

ولكن احد لم يلاحظ ان هناك بنية تحتية ضخمة، ومشاريع استثمارية وخدمية هائلة دمرها الإعصار، ما يجعلنا في مأمن من غضبه لأنه لا بنية تحتية لدينا، لم يلاحظ احد ذاك الهجوم الحاد على السلطات وتحميلها المسؤولية والبدء بمحاسبتها وكأنها هي من صنع الإعصار، ولم يلاحظ احد ماذا صنعت الصحافة بألوانها المتعددة حيث نتفت ريش المسؤولين الحكوميين من جورج وش ونزولا، كما أنها حللت الإعصار ونشرت نتائجه وتوجهه للناس بالنصائح وساعده في حملات جمع التبرعات، لم يلاحظ احد دور الفن الاجتماعي واستنفار كافة فناني هوليود الأغلى في العالم للعمل الخيري، لم يلاحظ احد الخط الأدنى لحقوق الإنسان في حالة طارئة كهذه، لم يلاحظ احد ارتفاع أسعار المواد الأولية لأن الإعصار قضى على الكثير من المنشآت الصناعية الضخمة والتي جعلت العرض اقل من الطلب، لم يلاحظ احد شيئا يفيد العباد من كارثة كتارينا.. ومع هذا تبقى اميركا هي المتربص الأول بنا، وليس هناك من أوهام تبعث على الرضا منها، ولكن الحقيقة هي الحقيقة، ما يجعل اميركا قوية هو كل ما لا نلاحظه وما يجعلنا ضعفاء هو كل ما لاحظناه.

من هنا وحتى قيام الساعة سوف يبقى كل شيء في نظرنا وهم بوهم، لأن الحقيقة شأن يلمس بغض النظر عن عواطفنا تجاهه، والوهم هو الترياق الوحيد الذي يشجعنا على الانتحار....!!!