تعمل حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة بنشاط لاثارة الاهتمام الاقتصادي الدولي بلبنان بعدما "نجحت" الحوادث فيه والتطورات في اثارة اهتمام المجتمع الدولي بقضاياه السياسية والامنية وخصوصا منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويقتضي الانصاف في هذا المجال القول ان العمل المذكور للحكومة لم يكن مستحيلا او بالاحرى صعبا بما فيه الكفاية لان هذا المجتمع لاقى الحكومة في منتصف الطريق انطلاقا من اقتناعه بضرورة معالجة كل المشكلات الكبيرة في لبنان، علما ان مشكلاته كلها كبيرة. وظهر ذلك في وضوح في الاجتماع التمهيدي "الاقتصادي" الذي عقد في نيويورك الشهر الماضي على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للامم المتحدة والذي قرر المشاركون فيه مبدئيا عقد اجتماع لهم في بيروت اواخر السنة الجارية للاطلاع على المشروعات الاصلاحية التي يفترض ان تكون حكومة السنيورة اعدتها ولاقرار وسائل مساعدتها على تنفيذها. لكن الحكومة اياها منشغلة كثيرا هذه الايام بمشكلة اخرى قد تكون اكبر واخطر من المشكلة الاقتصادية والمالية في البلاد هي الوضع الامني المفتوح على المجهول في ضوء الانفجارات المتنقلة والاغتيالات المبرمجة وخصوصا بعدما تسارعت وتيرتها و"توسع" نطاق استهدافاتها. وللانشغال المذكور هذا سببان متكاملان. الاول، ضرورة تأمين حياة المواطنين واشاعة الاستقرار في البلاد قبل مباشرة تنفيذ حزمة اصلاحات اقتصادية ومالية. ذلك ان الناس يريدون ان يعيشوا اولا. ومتى ضمنوا ذلك يمكن العمل لتحسين مستوى عيشهم. والثاني، الادراك ان استمرار التردي الامني بل تفاقمه لا بد ان يرجىء "الاجتماع الاقتصادي" المقرر انعقاده مبدئيا بعد اقل من ثلاثة اشهر. ذلك ان احدا من المقتدرين في المجتمع الدولي الذين يسمون "المانحين" لن يبادر الى "ملء قربة مثقوبة".

هل تنجح حكومة السنيورة في معالجة المشكلة الامنية التي تزداد استعصاء يوما بعد يوم الامر الذي يمكنها من البدء بمعالجة الشأن الاقتصادي الذي يفترض انها خبيرة به، مثلما كانت حكومات رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري؟

في المبدأ الاستقرار السياسي هو الذي يؤدي الى الاستقرار الامني وخصوصا في بلد ذي تركيبة طائفية ومذهبية وسياسية بالغة التعقيد. وفي المبدأ ايضا ان الاستقرار السياسي الفاعل والمطلوب هو الذي ينتج الاختيار الحر للمواطنين في كل المجالات وليس فقط من قوة الاجهزة الأمنية والقوات العسكرية. وما يشهده لبنان حاليا اكبر دليل على ذلك. اذ ان الاستقرار الامني الذي نعم به وان مع بعض الاستثناءات بين خريفي العامين 1990 و2004 لم يكن نتيجة استقرار سياسي بمقدار ما كان نتيجة قوة عسكرية وامنية بحتة. وعندما انسحبت هذه القوة وتعطلت القوة اللبنانية الموازية لها لاسباب معروفة لا داعي للخوض فيها انكشف عدم الاستقرار السياسي وانعكس سلبا على الوضع الامني، علما ان الانصاف يقتضي الاشارة هنا الى عوامل اخرى ساهمت ولا تزال تساهم في الانكشاف الامني للبلاد. لكن الانصاف نفسه يقتضي الاشارة ايضا الى ان اصحاب هذه العوامل المتنوعة الهوية يستفيدون من غياب الاستقرار السياسي المذكور للاستمرار في خوض حروبهم ومواجهاتهم. وما كان ذلك ليحصل بهذه الدرجة من النجاح لو كان الحد الادنى من الاستقرار المذكور متوافرا.

هل يمكن توفير الاستقرار السياسي المشار اليه؟

يمكن السعي الى توفيره. لكن العقبات امام ذلك كثيرة. منها الشلل الموجود داخل الدولة بسبب تواجه فريق داخلي ممثل برئيس الجمهورية العماد اميل لحود خسر شعبيا منذ فقد السند الاقليمي الاول بل الاوحد له وحكومة تمثل غالبية نيابية كما تمثل "خطرا" سياسيا ومواقف مناهضة لفكره وممارساته وسياساته. ومنها ثانيا الشلل الذي يكاد ان يصيب الحكومة بسبب وجود فريق فيها يتمتع بتمثيل شعبي معين كبير وبدعم اقليمي اكبر ويملك تاليا حق "الفيتو" اي النقض لا يشاطر الفريق الاساسي في الحكومة نظرته اولا الى المشكلات القائمة وثانيا الى الحلول اللازمة لها. ومنها ثالثا، الاختلاف داخل الشعب اللبناني او بالاحرى "الشعوب" اللبنانية على امور اساسية وجوهرية ابرزها على الاطلاق في هذه المرحلة الرعاية الدولية للبنان التي يرحب بها البعض والتي يرفضها البعض الاخر لاعتباره اياها وصاية وتدخلا خارجيا ولاقتناعه بان اهدافها الاساسية المحافظة على مصالح "العدو" الاسرائيلي والاميركي وليس على مصالح شعب لبنان العربي ومصالح اشقائه العرب والمسلمين وفي مقدمهم سوريا والجمهورية الاسلامية الايرانية، والعنوان الابرز لهذا الاختلاف هو قرار مجلس الامن الرقم 1559 الذي يدعو في احد بنوده الى نزع سلاح الميليشيات اللبنانية... والمقصود بذلك سلاح "حزب الله" والمقاومة التي حررت معظم الاراضي التي كانت تحتلها اسرائيل في ربيع الـ2000. وهذا الاختلاف جدي وحقيقي رغم محاولة كل اطرافه تناوله بهدوء وموضوعية تلافيا لتفجر البلاد وانفجارها وكذلك بشيء من المماطلة والارجاء ربما في انتظار ظروف ملائمة لكل منهم. فالشيعة على وجه الاجمال وبعض الاحزاب "الوطنية" يرفضون مس هذا السلاح. والمسيحيون على وجه الاجمال مع ايجاد حل له رغم ان ابرز ممثل لهم يحاول بهدوء معالجة هذا الامر مع المعنيين به مباشرة. والسنة على وجه الاجمال غير مرتاحين الى هذا السلاح. لكنهم يتصرفون حياله بهدوء تلافيا للاسوأ. اما الدروز فمعه الان او بالاحرى ضد ازالته بالقوة. علما انهم كانوا سابقا من انصار ايجاد حل له يعيد لبنان الى اتفاق الهدنة لعام 1949.

كيف يحل هذا الاختلاف؟

بالحوار اولا واخرا. لكن احدا من اطرافه لا يبدو جادا في الحوار بدليل انه لم يبدأ بعد رغم الكلام الكثير وكأن كل منهم ينتظر "اعجوبة" خارجية ربما تساعده في ايجاد حل لهذه المشكلة، علما ان التريث في الحوار قد يكون مبررا لاسباب عدة ابرزها اثنان. الاول، عدم حسم التشابك اللبناني – الاقليمي حتى الآن رغم جهود المجتمع الدولي ورعايته او وصايته. والثاني، عدم قدرة الطرف المعني مباشرة بالامر على عزل نفسه عن العوامل الاقليمية المؤثرة في مواقفه رغم هامش التحرك الذي حظي به دائما.

وفي اي حال لقد سمعت طهران الاسلامية وسمع حليفها اللبناني "حزب الله" كما سمعت سوريا من جهات سياسية لبنانية عرفت دائما بحرصها على مصالح لبنان وفي الوقت نفسه على مصالح اشقائه وفي مقدمهم سوريا واصدقائه وفي مقدمهم ايران كلاما مهما من شأن قبوله تسهيل نزع الغام الداخل المزروعة على طريق الاستقرار السياسي الذي من دونه لا استقرار امنياً، ومما قالته هذه الجهات:

- لا تكرروا الخطأ الذي ارتكبه الفلسطينيون في لبنان في السابق (علما ان الاخطاء لم تقتصر عليهم). فهؤلاء وجهوا سلاحهم نحو الداخل في الجنوب مما دفع باهله او بقسم منهم الى رش الارز على الاجتياح عام 1982 على الاقل عند بدايته. وحاولوا السيطرة على العاصمة او مارسوها فدفعوا ابناءها الى طلب خروجهم منها او الموافقة على هذا الخروج. واعتبروا ان طريق فلسطين تمر في جونيه، فكان ما كان.

- ان المنطقة على قاب قوسين او ادنى من تسوية ما. ونحن لا نستطيع ان نتسرع في ملاقاتها ولا نستطيع مواجهتها. علينا الانتظار والترقب.

- لا يمكن تحرير الجولان السوري من مزارع شبعا او حتى من القرى السبع. الجولان يحرر بوسيلتين: اما الحرب الناجحة وهي غير متوافرة حاليا واما بجهد دولي واسع وكبير.

- لا بد من لبننة القرارات الدولية المتعلقة بلبنان وفي مقدمها القرار 1559 وذلك حتى يصبح قبولها ممكنا من كل اللبنانيين او على الاقل من معظمهم. والشرط الاساسي لهذه اللبننة هو ان تتوافق مع مصالح لبنان الدولة العربية السيدة والمستقلة والديموقراطية. ويستحيل التوصل الى ذلك من دون حوار. فهل يبدأ؟

مصادر
النهار (لبنان)