كنت مراهقا في منتصف السبعينيات عندما تصفحت كتابا كان في مكتبة والدي .. على ما أذكر أنه كان للكاتب عبد العزيز الدوري , ما لفت نظري في هذا هو كلمة ــ الشعوبية ــ كنت لأول مرة أسمع وأقرا هذه الكلمة .. فورا سألت والدي عن معناها .. تكلم والدي كعادته باقتضاب وجدية وشرح لي ما أعتقدت أن الكاتب يريده ولازلت أعتقد ذلك ولم يتسن لي حتى اللحظة سؤال والدي عن رأيه الشخصي في هذا الموضوع .. لكنني فهمت منه أنها حركات لمجموعات : تريد تفتيت الأمة العربية .. ما أريد قوله هنا من ذاكرة مراهق عربي تأثر بمكتبة والده منذ بداياته : أن الشعوبية هذه التي تهدد وحدة الأمة العربية لازالت قائمة حتى اليوم ولو أن المصطلح غاب عن التداول ..كما غاب والدي ــ رحمه الله عن الحياة قبل أن يرى الأمة العربية وقد توحدت , وقدمت نموذجها الحضاري للعالم المعاصر .. وما فهمته منه وقتها : أنها الحركات التي تدور في فلك خارج فلك الثقافة الإسلامية بنسختها السنية العربية أو من أصول ليست عربية .. وحضور هذه الذكرى هو ما أقرأه يوميا في الصحافة العربية .. عن المؤامرات التي تحيط بهذه الأمة .. ويعيد التاريخ نفسه من زاوية : أنها تأتي الآن من هنالك من جهة العراق : كردا وشيعة , ولكن لم يعد مصطلح الشعوبية متداولا في هذه اللحظة من عمر الأمة العربية .

وللمفارقة اللطيفة أن الأقليتين الكبيرتين : الكردية قوميا والشيعة دينيا , هما الآن من يحملان مشروع : تفتيت الأمة العربية من جهة الشرق . باستقواء هاتين الأقليتين : بالنموذج الأمريكي . هي هكذا لغة مباشرة تأتي من لدن ثقافة النظام العربي الذي ورث المنطقة كل هذه الكوارث وعلى كافة الصعد ولازالت ثقافته ترتع وحيدة في الميدان .. وكل ثقافة خارج هذه الثقافة : هي مأجورة , أو شعوبية دون تداول المصطلح بالطبع .. كي لا يظهر المثقفين العرب على أنهم شوفونيين .. والسؤال الذي يطرح نفسه :
لماذا غالبية المنابر العربية مفتوحة لهكذا ثقافة أكثر من غيرها ؟ ومرور على الصحف المصرية والخليجية والأردنية والسورية ..الخ يرى المرء المشهد ــ الأنتي أمريكي والأنتي شعوبي ــ طاغيا
, والمضحك الذي لايبكي أن غالبية هذه النظم .. تستجدي أمريكا كي تحميها .. تحميها ممن ..؟ من شعوبها .. من القيام بأية إصلاحات تذكر ..؟ وكل نظام من هذه الأنظمة لديه الاستعداد لتفتيت الدول العربية الأخرى فيما لو أخذ الضوء الأخضر من أمريكا مقابل تركه متفردا في ساحة دولته الداخلية ..وغالبية هذه الوجوه الثقافية تجد عذرا لهذه الأنظمة .. وتتقاتل على الفضائيات , بين السياسة السعودية والقطرية على سبيل المثال الحي والراهن .. أو الكويتية السورية على سبيل المثال العلني والضمني .. الخ ويغيب السؤال المركزي عن ذهن هذه الثقافية التشكيكية :
في خمسينيات هذا القرن العشرين اللعين : من بدأ بإحضار أمريكا إلى المنطقة ..؟ أليس نفسه النظام العربي الذي لازال مسترخيا على أكل دم ولحم هذه الشعوب المستباحة , دون أدنى وازع أخلاقي .. عندما ملأت القواعد الأمريكية منطقة الخليج هل جاءت أمريكا بالقوة أم بناء على طلب ورضى هذه الأنظمة نفسها .. وتغيير الشخوص في النظام العربي الرسمي ليس مهما على المستوى السياسي .. و المثقف العربي تائها في زحمة الحدث ـــ الخردة ــ كما سمى الشاعر اللبناني بول شاوول الوضع العربي , ويأتيك من يقول لك إن الصمود السوري الآن في وجه أمريكا
هو صمودا مشرفا للأمة العربية وعلى الشعوب العربية أن تقف مع هذا الصمود ومن باب رفع العتب لأن السبب واضح ولا يبطل : مع أن وضع النظام من الداخل يحتاج إلى إصلاح ..!! لكي يتمتع هذا المثقف بالموضوعية ويقول أنا ضد الأمركة فقط ولست مع النظام السوري مثلا ..!!! أما من يتحدث بغير هذه اللغة فهو مأجورا عند الأمريكان وخادما مطيعا للموامرة الصهيونية على الأمة..
أيضحك المرء أم يبكي ..؟؟ ومع ذلك قلت في نفسي سأقوم ببحث عن هؤلاء المثقفين الذين هم الآن في موقع التهمة بالأمركة : أيوجد فيهم من تعود أصوله إلى شعوبية ما .. أو هو قابض دولارات من الإدارة الأمريكية الرعناء! ؟ فوجدت أنني عاجز لوحدي عن القيام بمثل هذا المسح لأنه يحتاج لميليس خاص كي يرفع السرية عن الحسابات المصرفية لهؤلاء العربان المتأمركين.

من أين سنحضر هذا الميليس ؟ قررت ألا اشغل نفسي بهذه القضية , خصوصا عندما تذكرت : ان هذه الثقافة لم ترفع عقيرتها عندما كان اليسار العربي المعادي لأمريكا في السبعينيات والثمانينيات يذبح على مرأى ومسمع الجميع .. دون رؤية هذا النحيب المنتشر الآن في الصحافة العربية .. والتذكير لعل الذكرى تنفع قليلا المؤمنين وغير المؤمنين ..

وبالعودة لعنوان المقال : الأمركة نموذجا حضاريا .. والسؤال : ماهو النموذج الذي يدعو إليه أو تدعو إليه هذه الثقافة ؟ هذا أول البداهات والثانية : أنا كمواطن شيعي أو كردي أمامي نموذجين :

الأمركة أو النموذج الصدامي ؟ لماذا أمامي لأنني لم أخترهما بمحض إرادتي هذا أولا وثانيا : هل مطروح على خيار ثالث .. أم أن مدعو لتأسيس خيار ثالث ؟ جميل إذا كان الخياران الآخران ينتظران سأختار النموذج الثالث .. هذا طبيعي .. ولكن المطروح على سياسيا : خياران لاثالث لهما .. وليس مطروحان وحسب بل قائمان على الأرض الآن ..؟

هذه ليست حملة تيئيس وتبرير ولكنها حملة إنقاذ ما يمكن إنقاذه .. وعقلنة حقيقية للواقع المعطى والذي لاذنب لي في معطياته هذه وليست خطابا عقلاني !!
والبساطة تقتضي إذا افترضنا أن هم أمريكا هو استغلال المنطقة اقتصاديا واستراتيجيا فقط : فأصبح أمام معادلة بسيطة وبين خيارين واضحين :
لدى مافيا في الداخل تنهبني وتذبحني ولا أستطيع الكلام .. ولدى مافيا تريد نهبي وتجعلني أتكلم بحرية ضدها .. خياران بسيطان : بالتأكيد سأختار المافيا الثانية , لن الخيار الثالث غير مطروح على أصلا كمواطن وإن كان المثقفين يرونه فهذا يعود لعبقريتهم .. أما أنا المواطن الشيعي أو الكردي لا ارى ولم ألمس بعد بصيص أمل في وجود خيار آخر ..

المثقف العربي يدافع عن المافيا العربية إنها النموذج الذي يريد لمواطنه أن يتبناه ويعض على جراحه النازفة لدرجة أنه لايملك العدد الكافي من الأسنان كي يعض على جراحه الكثيرة والمتكثرة من جراء المافيا العربية المتربعة على عرش السلطة :

كان الخيار واضحا في العراق :إما عدي أو قصي صدام حسين أو جورج بوش , لم يترك صدام والخيار العربي أي خيار ثالث أمام المواطن العراقي ... لايحتاج الأمر سياسيا إلى تعقيدات المفكر الكبير مطاع صفدي ولا إلى تنظيرات سعادة السفير رياض نعسان آغا ولا إلى إطعام المواطن العربي من جديد بضاعة فاسدة صدرت للغرب .. من قبل المافيات العربية ويعاد استردادها بلبوس :

حقوق إنسان أو الفكر القومي ..الخ والخيار الآن في سوريا أوضح : إما أصولية طائفية نهابة ومفترية على حد قول المصريين تسمى عند المعارضة السورية الوطنية ــ سلطة شمولية ــ أو ماذا أجيبونا من فضلكم .. ماهو الخيار الآخر ..أم ننتظر كي نؤسس 1500 حزبا سوريا : ليبراليا ديمقراطيا لا يأتي على ظهر دبابة أمريكية أو أحزابا طائفية بلبوس إسلامي مع دولة تعاقدية ..

على المثقف العربي أن يتقي الله في مواطنه .. وأن يضعه أمام الحقائق وفيما بعد يدعوه لتأسيس نموذجا عربيا حضاريا .. ومن منكم بلا خطيئة صدامية أو خليجية أو أوروبية أو غير حكومية فليرمنا بأحجاره ...!! وحمدا لله أن الخيار الثاني المطروح الآن في سوريا ليس أمريكيا صرفا بل : دوليا .... و حدوده القصوى إخضاع النظام لشروطه وليس تدخلا عسكريا على الطريقة العراقية
وهذا يريح المواطن السوري من عقدة الخيار الأمريكي الذي يشعر بها المواطن العراقي .. لأن الحبيب شيراك موجود على الخط الساخن .. !! ولننتظر سيصبح شيراك مثل بلير منفذا للسياسة الأمريكة كما بدأت تهل علينا الصحافة السورية وبعضا من أعضاء مكتبها التنفيذي .. حيث سماه ــ شيراكووهو يركب بيجو 504 بيضاء اللون ــ وليس شيراك ...!!! ــ ذاكرة المزنوق ضيقة ـــ .

مرة أخرى المشروع الأمريكي لا يمكن مواجهته إلا بمشروع هيمنة سلمي بديل ومن داخل نفس الثقافة وتبادل المصالح أو تفارقها :
وهذا يفترض بدون مواربة وجود نظاما ديمقراطيا .. والنموذج الجنيني هو حركة كفاية المصرية .. وليس بالضرورة ايضا أن تكون المواجهة حتمية , ربما تكون العكس ايضا ولهذا إن الحاجة لمشروع هيمنة بديل وفق التصور الغرامشي : هي حاجة داخلية لدى أوطاننا العربية , وربما كان هذا الإحتياج متقاطعا مع المصالح المريكية , أو متفارقا هذا أمر متروك للتاريخ اليومي والمتحرك .. ليس من باب السذاجة هذا القول كما أنه ليس من باب الرغبات والأمنيات : بل هو من باب الحقيقة التاريخية المتحركة للمشروع الر\اسمالي العالمي ومصالحه المتحركة والمتغيرة أيضا ..!! فأمريكا ضغطت على أهم حليف عندها وفق قراءة المثقف العربي للتحالفات وهو الزعيم المنتخب شعبيا حسني مبارك , ضغطت عليه حتى سمح بتعديل الدستور من نظام الاستفتاء إلى نظام الانتخاب التنافسي الحر ــ نسبيا بالطبع ــ نحتاج إذن إلى دول طبيعية حتى لوكان للمصالح الأمريكية النفوذ الأكبر ولكننا لانحتاج لسلطات استثنائية وخارقة في قدرتها على تدمير شعوبها وبشكل استثنائي أيضا .. دول طبيعة كباقي دول هذا العالم , ومجتمع مدني يوضح خياراته ومصالحه , وأحزاب سياسية تتنافس على خدمة مصالحها ومصالح من تمثل ..سواء كانت مصالح تتقاطع مع أمريكا أو مصالح تتقاطع مع الصين ..الخ .. أو ثقافة تريد تأسيسا ــ أنتي أمريكي ــ .. دول عادية وشعوب عادية غير مستنفرة غلى معارك سلطاتها .. ألا يحق لنا هذه العادية المعاصرة كنمط حياة ..؟ ومالمانع أن نتبنى النموذج الأمريكي في داخل مجتمعاتنا ..؟ أليس باعتراف الجميع أنه نموذجا مهما حضاريا من نماذج المشروع الكوني الرأسمالي دستوريا وديمقراطيا من أجل الارتقاء نحو أفق أرحب ومشروع أكثر حضارية وعدالة ..؟

ليعطنا المثقف العربي نموذجا أرقى كي نمشي وراءه ...!
النموذج الديمقراطي الراسمالي هو المطروح اقتصاديا .. ولا أظن أن هنالك إقتصاد سيقاطع أمريكا أو الاقتصاد الأمريكي !! أو يكون ــ أنتي أمريكي على هذا الصعيد ــ هذا أولا. ثانيا : أظن أن النظام الديمقراطي هو المطروح عموما على أجندة المثقف العربي ــ وأظن على رأس أولوياته هو الجلوس على طاولة المفاوضات مع أمريكا ــ إلا إذا كان هذا المثقف العربي سيعلن الحرب على أمريكا إما بجيوش أو على طريقة بن لادن ..!! وأظن مجرد الجلوس على طاولة المفاوضات هذا يعني في النهاية تبادل مصالح وتحديد المصالح التي تتفارق ..؟وهذه سمة الدول العادية والطبيعية في هذا العصر إلا إذا كان لدينا نموذجا آخر لنقدمه لشعوب العالم .. كي تقتدي به ..!!؟

نحن في التخلف نقبع ومن هو في التخلف لايستطيع إلا أن يمارس شيئا من التقليد للأرقى حتى يبدع كيانه الخاص .. وهذا مبحث خلدوني ماركسي لم يعد مختلفا عليه كثيرا ..!!والتقليد ليس شتيمة بل هو في أوضاعنا العربية أعتبره منتهى العقلانية .. وبعد أن تتنفس الشعوب بحرية كما تتنفس في العراق الآن كما هي وليس كما تريدها السلطات ــ البلوى العربية ــ نرى الأمر عيانيا .. لنذهب إلى المعركة وهنالك نرى شعوبنا .. إذا كانت تريد طائفية على الطريقة السيستانية .. أو ديمقراطية على الطريقة المصرية .. أو مبايعة على الطريقة السعودية .. عندها لن يمنعها أحدا لأنه خيارها وهي في آتون الحرية ــ بالمعنى النسبي جدا للعبارة ــ وهي تتعلم الديمقراطية والتعايش مع الآخر والآخر اسم مشتق ليس من الشبيه بل من المختلف مصلحيا وثقافيا وسياسيا .. والمتفق ليس آخرا هو : أنا في هذه اللحظة وعندما أختلف اصبح آخرا ... وهذا الفهم هو الذي يحاول المثقف العربي استبعاده عن مفهوم الآخر ورمي هذا المفهوم إلى حيز ــ الفضاء السرمدي للآخر الأزلي .. هو آخر أزلي وسيبقى آخر حتى الأبد ــ في فهم ديني لا دنيوي , وهذا هو الوجه الحقيقي للشعوبية التي نظر لها المثقف العربي قبل عقود .. أزلية الآخر المختلف دينيا وقوميا وتحصيل حاصل بناء على هذا الفهم سيبقى مختلف سياسيا ومصلحيا ... وهذا هو البلاء ..
في نهاية المقال علينا إعادة الرؤى للتاريخ وفي التاريخ وقواه ومصالحه الكثيرة والمتباينة والمتعددة الحضور والمتحركة الاتجاهات , وليس محاولة جلب التاريخ إلى الرؤى التي اشتقت من ثقافة المعنى السرمدي بما هو معنى ديني لا دنيوي ... لأن بذلك سيبقى الآخر : آخرا دينيا وقوميا حتى لو كان بين ظهرانينا ـــ مثال الشيعة والكرد ـــ .. أو حتى يأمر النظام العربي الرسمي بغير ذلك , عندها تصبح أمريكا هي : الأنا وليس غير ذلك .....