يُقال إن ما يسمى <<المجتمع الدولي>> (اقرأ الولايات المتحدة وفرنسا) أعطى لبنان <<فترة سماح>> قبل تطبيق ما تبقى من بنود القرار 1559. و<<فترة السماح>> في عُرف هذا <<المجتمع>>، على التباين بين مكوّناته، لا تعني إجازة تسمح برمي الموضوع جانباً إلى أن يحين وقته. إنها، بالأحرى، فترة إدخال التحولات الجزئية على موازين القوى في لبنان من أجل أن تصبح أكثر فأكثر ملائمة لتطبيق ما تبقى من القرار في موعد لاحق. إن <<فترح السماح>>، في رأي مانحيها، هي فترة دينامية، وغير جامدة، ويفترض فيها التحرك شبه اليومي تحضيراً لليوم الموعود لا بل تقريباً له قدر المستطاع.
ليس <<نزع سلاح الميليشيات>>، كما يطالب القرار، فعلاً فجائياً يتمثل في مشهد اقتحامي يحصل مرة واحدة وننتهي منه إلى الأبد. إن <<نزع السلاح>> هو مسار سياسي وأمني وثقافي وإيديولوجي يترجم نفسه في خطوات صغيرة، وبطيئة، ومتراكمة. وفي الحساب أن هذا المسار بدأ منذ سنوات، وأن وتيرته تسرّعت في الفترة الماضية، وأن المحطة الحالية المحكومة بتوازنات معينة هي محطة انطلاق لا محطة وصول، وأن على المعنيين بالأمر تقديم كشف حساب عما يفعلونه في انتظار لحظة المنازلة.

ثمة ركام من التفاصيل التي هي، في الحقيقة، روافد تصب في مجرى هذا المسار وتعطيه زخماً. الاهتمام الأميركي الفجائي بالجيش اللبناني واحد منها. وكذلك استخدام الذرائع كلها، المبررة وغير المبررة، لإعادة بناء الأجهزة الأمنية ولفصل عقيدتها الاستراتيجية عما جرى التوافق عليه في السنوات الأخيرة. وتعميق الهوة اللبنانية السورية بالاستفادة من كل الأخطاء الممكنة جزء من أدوات العمل. ويمكن أن نضيف إلى ذلك الضغط المستمر لإرسال الجيش إلى <<الخط الأزرق>>، والتلويح بمصير قوات الطوارئ الدولية. ولا يخرج عن هذا السياق الاستثمار الممكن لأي آثار سياسية محتملة عن 1595، ولا
إدخال <<أسلحة جديدة>> إلى النقاش خاصة بالتناقض بين تقدم الديموقراطية واستمرار <<السلاح الأهلي>>. ومن ركام التفاصيل، أيضاً، تشديد الطوق حول <<حزب الله>>، خاصة في أوروبا. وكذلك توظيف أي علاج للأزمة الاقتصادية اللبنانية ليس من أجل وضع شروط على الحكومة وإنما للإيحاء إلى اللبنانيين بأن الخروج من الأزمة، مع ما يعنيه من ضرورة توفير الاستقرار، متقدم على المسألة الوطنية حسب الاقتراح المكلف الذي تقدمه لها المقاومة.

إن لبعض هذه العناوين حيثيات مقنعة، ومقنعة جداً. إلا أنه من الواضح أن هذا الكم الهائل من اللمسات البريئة والأقل براءة لا يكتسب معناه إلا لحظة اشتراكه في تشكيل مشهد سياسي متكامل يُراد له، مع الوقت، جعل <<سلاح الميليشيات>> ثمرة يانعة للقطاف.
ويجب الاعتراف أن <<سلاح الميليشيات الفلسطينية>> يبقى أحد أفضل المداخل من أجل ملء <<فترة السماح>> بما يؤهلها لنهاية سعيدة من وجهة نظر <<المجتمع الدولي>> خاصة إذا أمكن الفصل، في مرحلة ما، بينه وبين <<سلاح الميليشيات اللبنانية>>. إن هذا الفصل، في الواقع، مغر. لماذا؟

لأن ثمة إمكانية أكبر لانتزاع موقف من السلطة الوطنية الفلسطينية ليست السلطة اللبنانية جاهزة لتقديمه. وثمة إمكانية أكبر لتقديم الأمر وكأنه لا يمس بالتوافقات اللبنانية ولا يهدد <<الوحدة الوطنية>>، ولا وحدة الحكومة، ولا وحدة قوى 14 آذار. وثمة إمكانية أكبر للاستفادة من سلوكيات منظمات تقدم على خطوات غير محسوبة من أجل التأكيد أن خطواتها لا تخدم أي مصلحة فلسطينية أو لبنانية. وثمة إمكانية للاستفادة من التجربة الناشئة في غزة حيث قد يتم الارتضاء بوقف أعمال المقاومة ما يضعف أي حجة حول السلاح الفلسطيني في لبنان. وثمة إمكانية، أخيراً وليس آخراً، للاستفادة من <<أوضاع شاذة>> في بعض المخيمات.

فإذا كانت الشروط المطلوبة لطرح قضية سلاح <<حزب الله>> غير متوفرة بعد فإن العديد منها متوفر لطرح قضية السلاح الفلسطيني. ويمكن الاعتقاد بأن ذلك يندرج، على الأرجح، في ما يتوجب الإقدام عليه في <<فترة السماح>> الممنوحة للبنان.

إن هذا التكتيك بارع فعلاً. إنه بارع، خصوصاً، لأنه ليس مطلوباً منه أن يؤدي كامل أغراضه. بمعنى آخر، لسنا الآن أمام خطة عملانية لنزع السلاح فوراً ولكننا أمام حملة تؤدي أغراضاً أكثر تواضعاً وتمهّد لأغراض أكثر طموحاً.

إن الإجراءات المتخذة في سياق هذه الحملة تؤدي، عملياً، إلى تعميق الفرقة بين قطاعات لبنانية وبين الفلسطينيين. والمطلوب قد لا يكون أكثر من استخدام الموضوع كفزاعة لإظهار كلفة التزام لبنان موقعه المعادي لإسرائيل وإيجاد أساس إضافي لطلب الحياد المزعوم. كما أن الحملة تحشر <<حزب الله>> وأنصار المقاومة بدفعهم إلى الخروج من منظومة الدفاع السياسية التي بنوها (الدفاع عن لبنان وردع إسرائيل) من أجل تبني سلاح متهم بأنه غير مجد، أو، <<عدواني>> وقابل لتوريط لبنان (لمصلحة سوريا لا لمصلحة فلسطين).

أضف إلى ذلك أن الجو المثار اليوم يؤثر بالغ التأثير على جدول أعمال أي حوار لبناني محتمل حول <<سلاح الميليشيات>>. ان المقصود تعقيد المهمة أمام القائلين بأن الحوار هو، أولاً، حوار في الهوية الوطنية والسياسة، ثم في أمور كثيرة بينها <<السلاح>>. والهدف من تعقيد المهمة هو أن يبدأ أي حوار لبناني، إذا بدأ، من حيث انتهى مع الفلسطينيين (قبل أن يبدأ أصلاً) أي بصفته، حصراً، حواراً لإيجاد آلية داخلية... لنزع السلاح!
لقد شهدنا، بالأمس، جلسة <<المونولوغات>> في المجلس النيابي. واستمعنا إلى الرد الحكومي الذي لم يلامس جدياً المضمون السياسي الاستراتيجي للمسألة الأمنية في لبنان. والملاحظ أن هذه الجلسة لم تظهر الحاجة إلى الحوار فحسب بل أظهرت، خاصة، الصعوبات التي ينتظرها هذا الحوار والتي قد تجعله يفيض عن <<فترة السماح>> العتيدة.

مصادر
السفير (لبنان)