من زمان وخصوصا منذ تحول الولايات المتحدة فريقا مباشرا في مشكلات المنطقة وصراعاتها السياسية والامنية والعسكرية ولبنانيون كثيرون يتمنون بدء حوار جدي بين دمشق وواشنطن يتناول اولا، العلاقات الثنائية الاميركية – السورية. وثانيا، قضايا المنطقة. وثالثا، القضايا التي يتواجه فيها الفريقان. ويتمنون في الوقت نفسه نهاية ايجابية لحوار كهذا تتمثل بتسوية او باتفاق طويل الاجل ينعكس ايجاباً على بلادهم ولاسيما بعدما اصبحت الساحة الوحيدة المؤهلة للمواجهة بين العاصمتين المذكورتين. طبعا لا يزال التمني المذكور هواجس للبنانيين بل مخاوف من "صفقة" بين اميركا وسوريا تكون على حسابها جزئيا او كليا علما ان هذه الهواجس والمخاوف بررتها "الصفقة" او الصفقات التي توصلت اليها الدولتان غير مرة في الماضي والتي اوصلت لبنان الى حال مأسوية كانت التطورات السلبية والايجابية التي شهدها منذ اكثر من سنة النتيجة الطبيعية والمنطقية احد ابرز نتائجها. ولا يعني ذلك قطعا رفع مسؤولية اللبنانيين انفسهم عن الكثير من الذي حل بهم ماضيا وحاضرا وعمّا يمكن ان يحل بهم مستقبلا لا سمح الله. لكنه اي "التمني" نبع في حينه من معرفة اللبنانيين بأمراضهم وباستغلالها من الخارج الشقيق وغير الشقيق لمصالح بعضها غير لبناني وبعضها مناقض للبنان. كما نبع من اقتناع بان تفاهما سوريا – اميركيا او تسوية او صفقة وفي ظل الاوضاع الدولية والاقليمية المعروفة لا يمكن ان يكون على حساب لبنان كليا ولا طبعا على حساب سوريا.

الا ان تمنيات هؤلاء اللبنانيين كانت شيئا، وكان الواقع شيئا آخر مختلفا بل مناقضا. ذلك ان الحوار الجدي والمنتج لم يحصل وخصوصا منذ عام 2001 حتى اليوم رغم اللقاءات القليلة التي عقدها مسؤولون كبار في البلدين والموفدين غير الرسميين الذين تنقلوا بين العاصمتين السورية والاميركية والزيارات المتعددة التي قامت بها وفود من مجلسي الكونغرس الاميركي وزيارات علاقات عامة لواشنطن قامت بها شخصيات رسمية سورية. وما حصل بدلا منه كان من الجهة الاميركية امران. الاول، الطلب الى سوريا الانسجام التام مع سياسات الولايات المتحدة في المنطقة. وتحول ذلك نوعا من الشروط غير القابلة للتفاوض. والثاني، اغراء سوريا بمساعدات مالية واستثمارية تفك ضائقتها الاقتصادية ومساعدات تقنية تساعدها في تحديث مرافقها. اما من الجهة السورية فكان ابقاء التواصل مع اميركا من دون الرغبة في التجاوب مع طلباتها وذلك تلافيا للوصول معها الى مواجهة ربما في انتظار فشل تدخلها العسكري والسياسي المباشر في المنطقة الامر الذي يجعل الحاجة الى سوريا للانقاذ ماسة اميركيا. وكان ايضا الرغبة في الحصول ومن كل الجهات الممكنة على كل ما يمكنها من معرفة حقيقة السياسة الاميركية وحقيقة مواقف الادارة الاميركية واحتمالات تطورها، وفي اي اتجاه وذلك بغية الاستعداد اما للحوار واما للمواجهة اذا صارت محتمة. وفي اختصار تكرر في موضوع العلاقات السورية – الاميركية ما حصل في العلاقات او بالاحرى في المفاوضات التي جرت بين سوريا واسرائيل في عهد رئيسها الراحل حافظ الاسد. ففي تلك المرحلة ومن دون الدخول في التفاصيل كان الاسد الاب صادقا في ايصال المفاوضات الى نتيجة ايجابية. واسرائيل لم تكن كذلك. عندما صارت اسرائيل جاهزة وان من دون ما يغري سوريا بالتجاوب لم تعد سوريا جاهزة. وظهر ذلك في اخر اجتماع للرئيس حافظ الاسد بالرئيس الاميركي بيل كلينتون في جنيف. وفي الموضوع السوري – الاميركي حصل الشيء نفسه تقريبا. اميركا كانت جاهزة لتسوية وربما لصفقة مع سوريا عام 2001 وعام 2002 وعام 2003 وبعض عام 2004. الا ان سوريا لم تكن جاهزة. والآن وبعد التطورات السلبية والمأسوية التي حصلت في لبنان منذ ايلول الاسبق (2004) وحتى الآن والتي كانت تداعياتها السورية وعلى موقع سوريا في لبنان والمنطقة والعالم سلبية بل مأسوية بدورها يبدو ان اميركا لم تعد جاهزة لحوار مع سوريا في حين ان الاخيرة صارت جاهزة لذلك او على الاقل قد تكون صارت جاهزة له.

هل يعني ذلك ان الحوار الجاد والمنتج بين دمشق وواشنطن سيبقى غائبا في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة بل التاريخية من تاريخ سوريا ولبنان والشرق الاوسط؟

لا احد يستطيع اعطاء جواب جازم عن هذا السؤال. لكن لا احد يستطيع تجاهل التحركات المعلنة وغير المعلنة العربية والاقليمية والدولية مع ما يرافقها من تسريبات ومعلومات عن وساطات معينة بين دمشق وواشنطن وعن احتمال نجاحها، علما ان لا احد ايضا يستطيع تجاهل المعلومات الواردة من واشنطن على السنة اعلاميين عاملين فيها كما على السنة فاعلين في بعض اوساط الادارة وكلها تشير الى استبعاد اي حوار او نجاح اي حوار مع سوريا لانها "لم يعد عندها ما تعطيه" . لكن ما يمكن الاشارة اليه في هذا المجال هو ان المساعي وخصوصا العربية وتحديدا المصرية والسعودية مستمرة لنزع فتيل الانفجار في العلاقة الاميركية – السورية الذي لا ساحة له في المرحلة الراهنة الا لبنان. وهي تدعو سوريا الى التعاطي بنية طيبة مع التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وتدعو ايضا الى احترام الوضع الذي نشأ في لبنان بعد 26 نيسان الماضي على صعوبة ذلك. وهي تدعو انطلاقا من ذلك الى تفاهم سوريا مع اميركا على كل القضايا الاخرى المختلف عليها وهي مهمة جدا.

وفي اي حال فان الاسابيع المقبلة التي تفصل اللبنانيين بل العالم عن موعد تقديم ديتليف ميليس المحقق الدولي تقريره الى الامين العام للامم المتحدة لا بد ان تكون حافلة بامور كثيرة ولا بد ان يظهر خلالها اذا كان الحوار الجدي بين سوريا واميركا سيبدأ ويستمر أم لا. الا ان السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل تريد سوريا حوارا قبل صدور التقرير وربما عليه كما على غيره من امور؟ والسؤال الآخر هو: هل تقبل اميركا حوارا قبل صدور التقرير؟

وطبيعي ان هذين السؤالين واسئلة اخرى كثيرة غيرهما تثيرها المواقف المتناقضة من اغتيال الحريري ومن التحقيق فيه. فالبعض في لبنان والخارج يصر على مسؤولية ما لسوريا عن ذلك ويعتقد ان تضمن التقرير الدولي ذلك يجعلها اكثر طواعية. وهذا اعتقاد خاطىء لان سوريا تنصرف في هذه الحال الى المواجهة الشاملة وبكل الوسائل. وسوريا كلها والبعض في لبنان ينفي مسؤولية كهذه ويستعد للتصرف على هذا الاساس.

في الختام لا بد من الاشارة الى ان الانعكاسات السلبية لعدم تجاهل تقرير ميليس سوريا معروفة سواء عليها أو على لبنان لكن لا بد من الاشارة الى امر آخر وبصيغة سؤال، هو: ماذا لو ابتعد التقرير ومن دون حوار او صفقة مع اميركا عن سوريا؟ والجواب معروف ولا داعي الى الخوض فيه.

مصادر
النهار (لبنان)