مرت مناسبتان لم يتوقف العرب كثيراً عندهما أو استرجاع الذكريات
المرتبطة بهما.المناسبة الأولى هي الذّكرى الخامسة والثلاثون لوفاة جمال عبد الناصر (28/9/1970)، والثانية هي الذكرى الرابعة والاربعون لانفصال سورية عن مصر ( 28/9/1961 ) بعد أن جمعت البلدين تجربة الجمهورية العربية المتحدة الّتي أُعلنت في 22/2/1958.

ربط القدر بين يوم الانفصال عام 1958 وأول أزمة صحية تعرّض لها جمال عبد الناصر، ثمّ ربط القدر أيضاً بين وفاته عام 1970 ومناسبة ذكرى الانفصال آنذاك.

ورغم كل ما قيل وكُتب عن تجربة حكم جمال عبد الناصر في مصر وعن سياسة ثورة 23 يوليو بشأن العمل العربي المشترك، فإنَّ خير شهادة لعبد الناصر كانت أنَّه دفع حياته ثمناً من أجل الحفاظ على التضامن العربي ولوقف سفك الدماء العربية الّذي كان يحدث في الأردن بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية طوال شهر سبتمبر 1970 ، ولم يكن لهذه المأساة أن تتوقف لولا الجهود المضنية الّتي بذلتها القاهرة في ظل قيادة جمال عبد الناصر بعدما دعا إلى قمة طارئة في القاهرة توالت لعدة أيام لم يخلد فيها ناصر للرّاحة حتّى اللّحظة الأخيرة من حياته، واستطاع قبل وفاته أن ينقذ الأردن والفلسطينيين والقيادة الفلسطينية من صراع دموي طاحن كان يهدد الطرفين معاً.

ويخطئ الكثيرون حينما لا يميّزون المراحل في تاريخ التجربة الناصرية أو حينما ينظرون إلى السياسة العربية لجمال عبد الناصر وكأنها سياق واحد امتدّ من عام 1952 حينما قامت ثورة 23 يوليو إلى حين وفاة ناصر عام 1970.

حقيقة الأمر أنَّ السياسة العربية لمصر عبد الناصر كانت مرتبطة بالمراحل والظروف رغم القناعة المبدئية بالعروبة لدى القيادة الناصرية.

فثورة 23 يوليو حصلت عام 1952 دون أي ادّعاء بالعمل من أجل أي قضية عربية، وكانت الأهداف الستة للثورة المصرية الّتي أُعلنت حين قيامها خالية تماماً من أي موضوع عربي وتمحورت جميعها على القضايا الداخلية المصرية.

ولم يظهر البُعد العربي واضحاً في ثورة ناصر إلاّ بعد تأميم قناة السويس ثمَّ العدوان الثلاثي ( البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي ) على مصر عام 1956.

وفي هذه السنوات القليلة من عمر الثورة المصرية ظهر الالتفاف الشعبي العربي الكبير حول القيادة الناصرية واشتعل تيار القومية العربية في أرجاء البلدان العربية كتيار مرتبط بمطلب الاستقلال الوطني والتحرر من الاستعمار وامتلاك الثروات الوطنية في مرحلة كانت معظم دول العالم الثالث تعاني فيها من الاستعمار الأجنبي ومن تحكم الشركات الأجنبية بالثروات الوطنية.

وكانت صرخة ناصر: «ارفع رأسك يا أخي فقد ولّى عهد الاستعباد والاستعمار»، صرخة مدوّية كان صداها يتفاعل في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاّتينية، فكانت دعوة من أجل التحرر والحرية وحرّكت وأنهضت الشارع العربي كلّه من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، وكان ذلك أيضاً دافعاً لربط مطلب التحرر بالدعوة للوحدة العربية كتعبير عن وحدة الانتماء الثقافي ووحدة الهموم ووحدة الأحلام والآمال.

لذلك، جاءت تجربة الوحدة بين مصر وسورية عام 1958 تتويجاً لهذه المشاعر التحرّرية القومية، وقامت الجمهورية العربية المتحدة بناءً على ضغط الشارع العربي عموماً والسوري خصوصاً من أجل انضمام سورية للقيادة الناصرية في مصر.

لكن عقد الخمسينات الّذي تميّز بمعارك التحرر الوطني والاستقلال وبانطلاقة التيار القومي العربي، تعرّض لنكستين كبيرتين في مطلع عقد الستينات وأواسطه، وانتهى هذا العقد بوفاة من قاد هذه المعارك التحرّرية ومن أضاء شعلة العروبة في القرن العشرين.
النّكسة الأولى، كانت بحق الجمهورية العربية المتحدة اذ قادت جماعة انفصالية في سورية حركة الانفصال عن مصر يوم 28/ 9/ 1961، ثمَّ جاءت النّكسة الثانية يوم 5/6/1967 عندما جرت هزيمة حرب يونيو وما نتج عنها من متغيرات كثيرة في مصر والمنطقة العربية, وفي النكستين، كان ناصر مثالاً في المسؤولية وفي الحرص على العروبة, فرفض عبد الناصر استخدام القوة العسكرية ضد حركة الانفصال السورية للحفاظ على وحدة الجمهورية العربية المتحدة رغم مشروعية وقانونية هذا الحق، ورغم ان دولاً عديدة استخدمت القوة العسكرية للحفاظ على وحدة كيانها السياسي.

أما هزيمة عام 1967، فقد أعلن ناصر تحمله المسؤولية الكاملة عنها واستقال من كل مناصبه الرسمية، ولم يعد عن هذه الاستقالة إلاّ بعد يومين من المسيرات الشعبية العارمة التي شملت معظم البلاد العربية، ثم كانت هذه الهزيمة سبباً مهماً لإعادة النظر في السياسة العربية لمصر الناصرية اذ وضع جمال عبد الناصر الأسس المتينة للتضامن العربي من أجل المعركة مع العدو الإسرائيلي، وتجلّى ذلك في قمة الخرطوم عام 1967 وما تلاها من أولوية أعطاها ناصر لاستراتيجية إزالة آثار عدوان 1967، وإسقاط كل القضايا الأخرى الفرعيّة بما فيها سحب القوات المصرية من اليمن والتصالح مع الدول العربية كلها والسعي لتوظيف كل طاقات الامّة من أجل إعادة تحرير الأراضي المحتلة.

وكانت هذه السياسة هي سمة السنوات الثلاث الّتي تبعت حرب 1967 إلى حين وفاة عبد الناصر.

لكن خلاصات تلك المرحلة كانت مزيجاً من الدروس المهمة لقضيتي التحرّر والوحدة, إذ تبيّن أنَّ زخم المشاعر الشعبية لا يكفي وحده لتحقيق الوحدة، وأنَّ هناك حاجة قصوى للبناء التدريجي السليم قبل تحقيق الاندماج بين بلدين عربيين أو أكثر, وهذا ما حرص عليه عبد الناصر عقب حرب 1967 حينما رفض المناشدة اللّيبية ثمَّ السودانية للوحدة مع مصر، واكتفى بخطوات تنسيق معهما رافضاً تكرار سلبيات الوحدة الفورية مع سورية, أيضاً أدرك عبد الناصر ومعه كل ابناء الامة العربية أن التحرّر من الاحتلال يقتضي أقصى درجات الوحدة الوطنية في الداخل، وأعلى درجات التضامن والتنسيق بين الدول العربية.

كذلك، كان من دروس هزيمة 1967 وانفصال عام 1961، ان البناء الداخلي السليم وتحقيق المشاركة الشعبية الفعّالة في الحياة السياسية، هما الاساس للحفاظ على أي تجربة تكاملية بين البلاد العربية، وهما أيضاً الارض الصلبة لقيادة حركة التحرر من أي احتلال أو هيمنة خارجية.

لكن هذه الدروس المهمة لم تعش طويلاً بعد وفاة ناصر، وها هي الامة العربية الآن تعاني من انعدام التضامن العربي ومن الانقسامات والصراعات، ومن هشاشة البناء الداخلي وغياب الديموقراطية السياسية، مما سهّل ويسهّل الهيمنة الخارجية على بعض اوطانها ويدفع بالوضع العربي كله نحو مزيد من التأزم والتخلف والسيطرة الأجنبية.

إن التجربة الناصرية أصبحت الآن ملكاً للتاريخ، لها ما لها وعليها ما عليها، لكن العروبة كهوية انتماء مشترك، كانت قبل عبد الناصر وستبقى بعده رغم كل مظاهر التخلي عنها الجارية الآن، فالعروبة بمضامينها الحضارية قادرة على النهوض من جديد إذا ما توافرت القيادات السليمة لها، وإذا ما ارتبطت الدعوة للعروبة بالبناء الدستوري السليم.

وحينما تحصد الامة العربية قريباً ما يزرعه الطائفيون والمذهبيون والمتطرفون العاملون على تقطيع أوصال كل بلد عربي لصالح مشاريع أجنبية وصهيونية، سيدرك ابناء الامة من جديد الحاجة الى العروبة من أجل التحرّر والتقدم وبناء المستقبل الافضل.

مصادر
الرأي العام (الكويت)