شئنا أم أبينا، فإن حقيقة عالمنا تشير إلى أنه عالم تعددي، لعل الولايات المتحدة تمثل فيه القوة العظمى الوحيدة، لكن إذا أمعنا النظر فسنجد أن موقعنا الرفيع قد يكون مؤقتاً أكثر مما نتصور الآن. في جميع الأحوال، فإننا لا نستطيع تحقيق كل ما نصبو إليه بطريقة أحادية.

ومن الضرورة بمكان أن نكون واعين لفكرة أن أفضل قدراتنا على التحرك على الصعيد المؤسسي والدولي تندرج في إطار الأمم المتحدة، وبات يتعين علينا التخلي عن اللعبة الفارغة من المعنى والسخيفة والمثيرة للسخرية غالبا والمتمثلة في الحط من قدر الأمم المتحدة والاستخفاف بها والشروع في محاولة عكسية عنوانها العمل على جعل هذه المؤسسة أداة نافعة.

فالأمم المتحدة هي نتاج عمل البلدان الحليفة بنهاية الحرب العالمية الثانية وستكون كما نرغب أن تكون في زمننا هذا، لا أكثر ولا أقل. ومن الواضح أن الأمر يتعلق بمؤسسة هشة لأننا هكذا أردناها أن تكون. في البداية، كانت الولايات المتحدة ضد إعطاء حق النقض (الفيتو) للبلدان الأعضاء في مجلس الأمن الأكثر خبرة ومقدرة، كما أراد الروس، لكن المؤكد هو أننا نحن من قمنا باستغلال حق الفيتو أكثر من الروس بكثير.

الأمم المتحدة أداة أو جهاز نحميه ونصونه حين يتناسب مع مصالحنا ومقاصدنا ولا نبالي به إذا كان ذلك يناسبنا وننتقده إن أخفقنا أو لم نحقق أهدافنا.لكن من الملائم أن نساعد المنظمة بهدف أن تبلغ تطورها التام، سواء فيما يتعلق بدوائرها الإدارية أو بهيئاتها المقررة ( مجلس الأمن والجمعية العامة ). ومن الواضح انه يتعين علينا عند القيام بذلك أن ننمي أنفسنا ونتقدم فيما يخص موقفنا حيال المنظمة.

ولا بد وأن نتفق على التعاون رغم أننا لا نحسن دائما التعامل مع القرارات التي يتم تبنيها في كنفها، وكذلك الأمر بالنسبة لأساس التعايش في كنف أي مجتمع، بما في ذلك المجتمع الدولي. ثمة عنصر أساسي في الأمم المتحدة يكمن في دورها الخاص بحماية السلام. لكن الولايات المتحدة عندما تفضل استغلال قواها الخاصة تحت قيادتها المباشرة، فإنها تعارض بذلك عادة أن تعتمد الأمم المتحدة على القوة والموارد الكافية لتحقيق أهدافها.

لقد كان خطأ باهظ الثمن حيث كان من الممكن الحيلولة دون نشوب حروب أو أن تنتهي هذه في وقت مبكر، ولكان آلاف الأشخاص قد تمكنوا من النجاة من الموت ولكان أمننا نفسه قد تعزز لو تمكنت الأمم المتحدة من تطوير قوة سلمية راسخة ومتينة . فضلاً عن أن قوة سلمية بهذه الطبيعة ستلقى من القبول في المناطق الأكثر اضطرابا وإشكالية في العالم أكثر بكثير من قوة حصرية أو قوة مسيطر عليها أميركيا في شكل تحالف.

فالشعوب ستنظر إليها بالنتيجة على أنها تمثل تحد لسيادتها أو كقاتل مأجور ولن تعتبرها قوة أمنية يمكن أن تشارك فيها تلك الشعوب. لكن لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن قوة بهذه المواصفات يجب أن تكون فعالة. ولكي تكون فعالة، لا بد أن تكون قوة على أهبة الاستعداد بشكل دائم وليس قوة مصنفة ضمن الأوضاع الطارئة ،

ويجب أن تعتمد على قيادة موحدة تابعة للأمين العام وخاضعة لأوامر مجلس الأمن و إنشاء تلك القوة لا يعني مطلقا أن على الولايات المتحدة «أو أي بلد آخر» أن تتخلى عن قواتها المسلحة الخاصة بها، على أن تواصل كونها ضرورية للمهام الخاصة بالدفاع ولتهدئة المشاعر والقلاقل القومية، التي من المنتظر أن يتراجع مستواها.

كما تجدر الإشارة وفي إطار الهوامش الأمنية أيضا إلى ضرورة إعادة توجيه جزء، على الأقل، من الاستثمارات الأميركية الهائلة في التسلح والقوات العسكرية باتجاه برامج صحية وتعليمية وبحثية وبيئية في القطاع العام. فالمليارات ال500 التي أنفقتها الولايات المتحدة في فيتنام وكذلك الأموال المعادلة لها التي تنفق الآن في العراق، هي أموال مهدرة بالدرجة الأساسية.

لو أن نسبة بسيطة من تلك الأموال وظفت في مشاريع نافعة ومبادرات، لكان العالم الذي نعيش فيه اليوم عالماً أكثر جدارة وعدلا وأكثر ازدهارا وأقل خطراً بالنسبة للولايات المتحدة نفسها ومواطنيها وبالنسبة لبقية مواطني العالم . والطريق الأمثل للسير في هذا الاتجاه هو أن تتحرك الأمم المتحدة بصورة نشطة وراسخة بالتعاون مع منظمات إقليمية أمنية إن أمكن .

ومع ذلك ، فإننا بدل أن نتأمل بطريقة خلاقة وذكية وبدل أن نمول الأمم المتحدة بشكل ملائم ، رحنا نواجهها وننتقدها بلا هوادة ونكيل لها الاتهامات ، وبالمناسبة ، فإن فضيحة برنامج النفط مقابل الغذاء في العراق في سنوات التسعينيات تشكل المثال الأخير على ذلك ، علما بأنه تحت إكراه الولايات المتحدة ، دفع مجلس الأمن ـ الذي تستطيع الولايات المتحدة في كنفه معارضة جميع القرارات بشكل واضح ـ بهذا البرنامج .

وللتحقق من تطبيقه وإتمامه، أنشأ مجلس الأمن بدوره ما سمي اللجنة 661، التي كانت الولايات المتحدة عضوا بارزا فيها. والآن يروون لنا أنه بعد أن أصبح نظام المراقبة والإشراف الخاص بالبرنامج نافذا ، خرج من العراق 6 مليارات دولار ، على شكل نفط ، الأمر الذي يعزى للأمم المتحدة طبعا ، مع أن الحقيقة مغايرة تماماً، فالجزء الأكبر من النفط تم تصديره عن طريق الخليج العربي ، حيث يوجد الأسطول الخامس الأميركي ، الذي عاين جميع كميات النفط العراقية،

بما فيها معظم تلك الكمية التي بلغت قيمتها 6 مليارات دولار . وإذا كان هناك من أحد قد ارتكب ذنبا، فتلك هي الولايات المتحدة.وبقية المليارات الستة التي تعود لعمليات بيع النفط ، خرجت من العراق عبر الطريق البري باتجاه الأردن وتركيا اللتين سمحت لهما الولايات المتحدة ولأسباب مفهومة وربما مبررة بخرق المقاطعة ، لكننا فضلنا اتهام الأمم المتحدة بسياسة بدأناها نحن في الولايات المتحدة وأدخلناها حيز التطبيق وأشرفنا عليها وتسامحنا معها.

من الصعب على المرء أن يختلف مع الاتهام أو النقد اللذين يشيران إلى أن «الدور الوحيد الذي تعتبر الولايات المتحدة أن الأمم المتحدة تمارسه في النزاع القائم في العراق هو دور كبش الفداء». وسيكون من السخرية بمكان الاعتقاد بان هذا الاتهام لن يلحق الضرر بمصالحنا على المدى البعيد. مثال آخر أوضح على كبش الفداء سجل في العملية التي جرت في الصومال خلال إدارة كلينتون .

وفيلم «بلاك هوك داون» ( ريدلي سكوت 2001) يقدم لنا حكاية محكمة تماما، كما يظهر الفيلم، فإن القيادة الأميركية لم تراجع وحتى لم تبلغ قيادة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة قبل أن تهاجم قواتها مقديشو. لكن بعد أن فشل الهجوم طلبت القوات الأميركية أن تقوم قوة الأمم المتحدة بإنقاذها وقامت تلك القوة بما استطاعت . ويبدو للوهلة الأولى أن العملية الأميركية قد تحولت إلى عملية للأمم المتحدة ، التي أمطرت بعدها بالانتقادات.

بدل أن نرتكب تلك الشيطنات بشكل جريء، ينبغي علينا التصدي بجدية لعلاقاتنا مع الأمم المتحدة وتصويبها وتلك العلاقات هي الوحيدة التي نستطيع الحفاظ عليها بمستوى رفيع وبقدر كبير من الوفاء ، إذا ما تصرفنا بصراحة تامة مع المنظمة وأخذناها بعين الاعتبار في مبادراتنا ومولناها بشكل ملائم . الأمم المتحدة لن تكون تامة أبدا ، لكن مهما كانت هائلة تلك النسخة الأميركية من هجائية ويل روجرز ( 1935- 1879) «راعي البقر الفيلسوف ضد الكونغرس الأميركي», إلا أنها يمكن أن تشحب أمام أشياء أسوأ بكثير.

بينما كنت أعمل في خدمة الحكومة ومنذ ذلك الحين وحتى الآن ونحن ننتقد وننتقد، لكن الأمر المؤكد هو أننا لم نبذل أي جهد جدي حقيقي وأكيد من أجل التقدم نحو الأفضل،مع أن ذلك الجهد يجب أن يشكل، بلا شك، أولوية بارزة في سياسة الولايات المتحدة.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)