تقدمت تركيا خطوة تاريخية إلى الأمام في علاقتها بأوروبا، وكما في كل محطة تاريخية، ترك القرار الحاسم إلى اللحظة الأخيرة مساء الثالث من أكتوبر الجاري حين كُسرت العقبة الأخيرة أمام بدء المرحلة الأخيرة في المفاوضات بين انقرة والاتحاد الأوروبي والتي يتوقع أن تستغرق سنوات عدة قد لا تقل عن 15-10 سنة.

نجح الاتراك في عدم التنازل عن شرطين: الأول عدم الاعتراف الرسمي بقبرص اليونانية قبل بدء المفاوضات والثاني رفض صيغة «الشراكة المميزة» في حال تعثرت المفاوضات، والذكر صراحة أن الهدف النهائي للمفاوضات هو العضوية الكاملة وهذا ما حصل.

لكن أنقرة فوجئت، وقبلت(!)، بشرطين آخرين: الأول ربط قبول عضوية تركيا لاحقاً بمدى قدرة الاتحاد الأوروبي على الهضم «الاستيعاب» وهذا قد يخلق متاعب لتركيا في المستقبل بذريعة ان أوروبا، رغم اكتمال جمهورية تركيا ليست قادرة على الاستيعاب، والثاني، وبعد ضغوط أمريكية، قبول تركيا التخلي الضمني عن حقها في استخدام الفيتو ضد انضمام قبرص اليونانية إلى حلف شمال الأطلسي «الناتو».

في حسابات الربح والخسارة يمكن القول ان حكومة حزب العدالة والتنمية لم تقدم تنازلات مؤلمة كثيرة وحافظت على الاطار العام للثوابت التركية المعروفة، فما اعتبر تنازلات مؤلمة ليس بشيء امام الهدف الأكبر وهو العضوية الكاملة.

يحقق التقدم على الطريق الأوروبي أكثر من هدف لمنظري حزب العدالة والتنمية.

- يمضي قدماً في هدم أسس «الدولة المتجذرة» التي استباحت الحريات وحقوق الإنسان وضربت الديمقراطية، وبالتالي فإن تركيا تعيد تأسيس نفسها مرة ثانية بعد التأسيس الأول عام 1923.

- يتيح حريات أكبر على كل الصعد تحول دون الاستهداف المنظم للحالة الإسلامية التي كانت عرضة للاقتلاع بعد 28 فبراير 1997.

- يتيح لتركيا كعضو في الاتحاد الاوروبي، أدواراً اقليمية ودولية، وهو تطلع مزمن لدى الأوساط الإسلامية بدءاً من «عثمانية» طور غوت أوزال وصولاً إلى «تركيا الكبرى» التي تحدث عنها رجب طيب أردوغان عشية بدء مفاوضات العضوية وتذكر بكلام لعبدالله غول حول أن تركيا لا يمكن أن تحبس داخل الاناضول.

- ان تركيا جزء من الاتحاد الأوروبي، ضمانة لبقائها موحدة تجاه النزعة الانفصالية للاكراد الذين سيحققون عبر المعايير الأوروبية ما لن يحصلوا عليه حتى في ظل دولة مستقلة لهم.

- ان تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تنأى عن المشكلات المزمنة التي تنخر جسم العالم الإسلامي مثل الاستبداد والسياسة العنصرية ضد الاقليات العرقية والمذهبية وغياب القانون وترنح العدالة وانعدام التكافؤ في الفرص والخلل في توزيع الثروة.

لكن أسئلة كثيرة تطرح، في المقابل، وقد لا تجد إجابات جاهزة:

- بعضويتها الأوروبية، تنتقل تركيا من نظام حقوقي اجتماعي يتضمن العديد من السلوكيات الإسلامية «رغم نظامها العلماني المشوه»، إلى نظام حقوقي أوروبي بالكامل يتناقض في كثير منه مع نظام الشريعة الإسلامي، وبالتالي هناك خشية من نزول الهوية الإسلامية للمجتمع التركي من كونها «هوية جماعة وأمة» إلى مجرد «هوية فردية»، ويتحول المسلم إلى «فرد» شأنه الذين يعيشون الآن في أوروبا، فيما النظام الحقوق والاجتماعي الذي يثقفه لاعلاقة له البتة بالإسلام، فهل إلى هذا الهدف يتطلع إسلاميو حزب العدالة والتنمية؟

- تبعاً لذلك فإنه لا يصح الحديث عن تركيا حديثة تجمع بين الإسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، فالنظام التركي ليس اسلامياً حتى يجوز الحديث عن مثل هذا الجمع، وما سوف يكون هو اسقاط نظام أوروبي بالكامل على مجتمع لن يكون له من الإسلام سوى الصلاة والصوم أي بمعنى آخر ان ما يجرى هو تحويل الإسلام في تركيا إلى «مسيحية» أخرى ان منع الحجاب، عبر المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وعدم تجريم الزنا والغاء عقوبة الاعدام هي مجرد مظاهر لهذه «المسيحية الإسلامية» بدأت حتى قبل بدء مفاوضات العضوية.

- إن تركيا، بالعضوية الأوروبية، قابلة لان تكون خير رسول لشرح الإسلام للمجتمعات الأوروبية، لاشك أن مثل هذه المقولة ستخفف من الحساسيات الدينية بين الجاليات الإسلامية في أوروبا والمجتمعات الأوروبية، كما بين أوروبا «والغرب مبدئياً» والعالم الإسلامي، لكن السؤال الذي يطرح: أي دور سياسي وعسكري لتركيا في محيطها الإسلامي والتركي لدى انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي؟ ان الجواب مرتبط بحالتين: أ- إذا استمر الاتحاد الأوروبي على ما هو عليه الآن من صيغة رخوة منقسمة فلا خوف من دور سلبي لتركيا في محيطها الإسلامي إذ تستطيع الاحتفاظ بحرية الخيارات.

ب- أما إذا كانت للاتحاد الأوروبي سياسة خارجية ودفاعية مشتركة واحدة، فإن تركيا ستكون ملزمة بتطبيق هذه السياسات حتى لو كانت ضد دولة إسلامية مثل إيران أو سوريا أو العراق أو المجموعة الإسلامية ككل، ان الخوف المبرر هنا في أن تنتقل تركيا من رأس حربة للعالم الإسلام، كما كانت منذ موقعة ملازكرد (1070م)، داخل أوروبا، إلى رأس حربة أوروبية مضادة داخل العالم الإسلامي، وهنا سيكون هناك تحول استراتيجي في التوازنات الدولية هو الأول، من زاوية العلاقة بين الإسلام والغرب، منذ ألف عام فهل هذا داخل ضمن حسابات حزب العدالة والتنمية، أعتقد انه حتى العلمانيون المتشددون داخل تركيا لا يريدون لتركيا مثل هذا الدور.

تطرح قضية العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي من الأسئلة أكثر مما تقدم اجابات حاسمة، لكن وجود «رؤية» كاملة، ضرورية في مثل هذه المشاريع الاستراتيجية الجذرية. تنتقل تركيا خلال أقل من قرن عبر ثلاث هويات: العثمانية، الجمهورية، والآن الأوروبية، وان دل على شيء فعلى أن تركيا لا هوية لها، مع الاعتذار من كل الأصدقاء الأتراك.

مصادر
الشرق (القطرية)