التلميحات التي صدرت عن المقربين من رئيس الوزراء حول تواصل عملية فك الارتباط أحادية الجانب زادت من التفاؤل السائد في اوساط كثيرة إثر الانسحاب من غزة واخلاء غوش قطيف. نفي ارييل شارون الحازم لم يخفف من الشعور بأن اسرائيل تمر في ذروة عملية لا مناص منها للانسحاب والاخلاء.
وبالمناسبة، التلميحات ونفيها اللاحق عززت من التأكيد بوجود أمر ما فعلا، ذلك لان هذا ما حدث بالضبط قبيل فك الارتباط عن غزة. لم ينجح أي طرف في إفساد الأجواء التفاؤلية، لا اليمين المُندد بكل تنازل للارهاب وتفريط بأرض الوطن، ولا اليسار الراديكالي الذي يقول أن كل ذلك مجرد خدعة وأن الاحتلال لم ينته - وبالتأكيد ليس السوداويون ذوي التشاؤم المهني.

أساس التفاؤل هو اقليمي: تنازل عن مناطق - المسمى بـ"تقسيم البلاد" - كان على الدوام مقياسا للسلام والتسوية ومن ينادون به - ناهيك عن المبادر اليه ومنفذه - يعتبرون دُعاة سلام ومصالحة. مصطلح تقسيم البلاد يعتبر مفهوما مطلقا، أي انه لا يحتاج الى تحديد وتعريف بمصطلحات كمية - ما هي النسبة التي ستُعطى لكل طرف - ولا حاجة ايضا الى الاكتراث لنتائج التقسيم وتأثيره على الناس الذين يعيشون فوق المساحة "المقسمة".

تاريخ تقسيم ارض اسرائيل يُجسد الانخفاض الذي طرأ على التقسيم من تسوية تاريخية الى عملية إملاء قسرية مشينة، والحساب الصحيح يجب ألا يجري كما هي العادة - كم "سنُعيد" وانما كم تبقى لكل طرف منذ "التقسيم" الاول في 1947. حسب قرار التقسيم كان من المفترض أن تضم المساحة الفلسطينية نصف ارض اسرائيل الغربية، خطوط الهدنة قلصت تلك المساحة الى 22 في المئة فقط. مشروع ألون أبقى من هذه المساحة 14 في المئة الى أن جاءت خطة شارون (مسار الجدار والكتل الاستيطانية وغور الاردن) لتُبقي لدى الفلسطينيين ما لا يزيد عن 8 في المئة من ارض اسرائيل الانتدابية.

ايضا الخطة التي تضمنت 50 في المئة وتلك التي تشمل 8 في المئة من المساحة تعتبر على حد سواء "خطة تقسيم" وهذه الأخيرة - التي يمكن ان تطبق فقط بطريقة أحادية الجانب، أي بقوة الذراع - جديرة في نظر الكثيرين بالثناء وتعتبر على لسانهم تسوية تاريخية. ولكن الانخفاض في التقسيم لا يُجسد الآثار التي تتجاوز البُعد الاقليمي، ذلك لأن كل تقسيم يؤثر تأثيرا حاسما على حياة السكان.

وبالفعل، يمكن وصف مسيرة تقسيم البلاد تماما مثل مسيرة تحطيم الأمة والمجتمع الفلسطينيين - من مجموعة قومية الى أشلاء ممزقة تعيش على خطوط التماس التي يفرضها الجانب الاسرائيلي المهيمن.

التقسيم الذي يتلاءم فقط مع المصلحة الاسرائيلية، يفرض قوانين وتسويات مختلفة لكل جيب من الأشلاء الفلسطينية الممزقة، وهذه الأشلاء - حسب قاعدة "الواقع يحدد الوعي" - مُجبرة على بلورة جدول اعمال خاص بها لنفسها، لا بل وأنها تطور مرغمة ثقافة خاصة بها وعادات مغايرة من اجل مواجهة تحديات الحكم وإملاءاته. التقسيم الحقيقي الاول في عام 1948 بلور مجموعة "عرب 1948"، مواطني اسرائيل الذين تحولوا طوال أكثر من خمسين عاما الى مجموعة سكانية ذات هوية مميزة، وجدول اعمال سياسي واقتصادي واجتماعي، وحتى لهجة وثقافة مغايرتين للواقع السائد لدى أهل المناطق والشتات. عام 1947 تمخض عن سكان المناطق الذين انفصلوا رويدا رويدا عن مجموعة الخارج والشتات (التي كانت بنفسها مقسمة الى أشلاء في الاردن ولبنان وغيرهما)، وهذه - التي حظيت باسم "عرب 1967" - انشطرت بين عرب شرق القدس الذين عوملوا معاملة مفضلة بسبب المصالح الاسرائيلية، عن سكان غزة وسكان الضفة الغربية.

عرب 1967 تأثروا تأثرا عميقا بالنظام الاحتلالي الاسرائيلي، وطوروا اجهزة سياسية وثقافية مختلفة عن تلك التي طورها مثلا الفلسطينيون في الاردن. فك الارتباط عن غزة يُعمق التباينات - الناجم عن الشروط المفروضة على يد اسرائيل - بين الضفة وغزة وعزل شمال الضفة عن جنوبها قد يؤدي هو ايضا الى توسيع التباين بين شظايا المجتمع الفلسطيني الشمالي وبين تلك الموجودة في جبل الخليل.

تحطيم المجتمع الفلسطيني الى ستة أو سبعة أشلاء ممزقة كان بامكانه أن يمنح اسرائيل جائزة النادي الاستعماري للعصر الامبريالي، إلا أن هذه الحقبة رحلت عن العالم، وفي القرن الواحد والعشرين يعتبرون اسلوب "فرِّق تسد" نمطا جديرا بالشجب والنكران. مع ذلك يمكن أن تُستخدم عملية التحطيم هذه كمختبر للابحاث الاجتماعية السياسية والثقافية والانتروبولوجية، إذ أننا نرى أمام أعيننا عملية تنتمي الى العهد البائد الذي رحل ولم يعد، ومن الممكن دراستها بالأساليب والوسائل البحثية الحديثة.

وبالنسبة للفلسطينيين، الذين يعرض عليهم فتاتا من الارض - 8 في المئة من وطنهم - يتوجب عليهم في المقابل ان يكونوا ممتنين شاكرين، ذلك لانه وفقا لتجربة الماضي يتبين أنهم قد خسروا عندما لم يقبلوا بالتقسيم "السخي" الذي عُرض عليهم ذلك لأن الطرف الاسرائيلي عرض عليهم بعد ذلك تقسيما أقل سخاء. وكل المنفعلين المعجبين بـ "تقسيم البلاد" ومن مبادرات التقسيم التي يطرحها ارييل شارون، ملزمون بالادراك بأن تحطيم الأمة الفلسطينية لا يحمل بشائر السلام وانما يدفع الى الحنين لصلاح الدين الجديد الذي يجمع الأشلاء الممزقة مثل ذلك البطل الكردي في القرون الوسطى.

مصادر
صدى البلد (لبنان)