الإحتفال بذكرى حرب تشرين (الثانية والثلاثين!) يلزمنا، والعالم العربي غارق في الظلام، وقفة تأمل عقلانية نخرج بها من مآزقنا ونتحرّك من جديد في اتجاه الأهداف الاستراتيجية التي ربما حجب رؤيتها عنا تهافتنا في اتجاهين متناقضين:

الحروب الارهابية ومترتّباتها، وخصوصاً في العراق، ثم منه.

والإعترافات باسرائيل و"التطبيع" الذي تقع في شركه بعض الدول العربية، ولو لم تكن حكماً هي الأقوى ولا الأفضل.

وأول أمثولة يجب ان نجعلها في قاعدة حساباتنا ان العالم العربي بعد حرب تشرين وما نجم عنها هو غيره قبل ما حققت مصر وسوريا من انتصارات، ولو متفاوتة... تماماً كما ان العالم العربي قبل جمال عبد الناصر كان غيره بعد الثورة، ثم غيره بعد هزيمة 1967.

ثانية الأمثولات، ولعلها الأهم، ان مصر تمكّنت، بمعاهدة كمب ديفيد، من توظيف انتصارها العسكري – رغم "الديفرسوار" – في ديبلوماسية كانت، ككل ديبلوماسية اصولية، حرباً سياسية تستكمل بها الدول حروبها العسكرية غير الحاسمة انما من دون لجوء الى سلاح... هكذا استعادت مصر كامل أراضيها المحتلة، بما فيها ما لم تسترجعه بقوة السلاح، بينما لم تمكّن اسرائيل سوريا من استرجاع كامل اراضيها المحتلة في ديبلوماسية تعثرت أكثر من ربع قرن وعشرات المؤتمرات واللقاءات!

وكذلك، استعاد الفلسطينيون بديبلوماسية وظفوا فيها ثمار الثورة (وهم لم يشتركوا في حرب 1973، بل ثاروا بعدها بالحجارة قبل السلاح، ثم السلاح، كل سلاح، باستثناء سلاح المخيمات في لبنان...) - استعادوا غزة التي هم في الطريق الى تحويلها الدولة التي رفضوها مع كمب ديفيد 1978 لأن شروطها كانت غير مقبولة وربما "غير معقولة"... ولا تزال المفاوضات المرتقبة، متى سلكت الديبلوماسية العالمية بالفلسطينيين واسرائيل "طريق الخريطة" التي يجب ان نستعيد معها باقي اراضي الضفة الغربية ونفكّ دويلة غزة من أسر "السجن الصغير" في السجن العربي الكبير.

لبنان وسوريا وفلسطين: وحدة المسار

قبل ان نمضي قدماً في تحليل الوضع العربي ماذا عن لبنان و"الفورة الفلسطينية" التي تسببت بها الشقيقة سوريا (العزيزة، رغماً عنها!)؟

الأمور الآتية تفرض نفسها:

- نهنئ انفسنا بانقشاع الجو الذي لاح في أفق العلاقات الأخوية ضمن ما سميناه "المثلث الأمني" (اللبناني – السوري – الفلسطيني) الذي بدت فيه ملامح سلامية (وأمنية):

أ – تبادل التحيات بين أقصى منطق الدولة (الرئيس السنيورة) واقصى منطق الثورة (احمد جبريل المتحرّك من دمشق)؛

ب – تبادل تأكيدات العلاقات الأخوية المفاجئة بين دمشق وبيروت كما في خطبة وزير الدفاع السوري، العماد أول توركماني، الذي كان كلامه في غاية الدقّة والمسؤولية؛

ج – طي الحديث الذي طرح فجأة في التداول غير المعقول عن احياء اتفاق القاهرة المشؤوم الذكر، والذي كان يعود بنا الى ما قبل حرب 1973، أي على وجه التحديد الى تداعيات 1967 وأخطرها حوادث 1969 التي ولدت منها حرب 1975 اللبنانية – الفلسطينية وحروب المخيمات التي غرقت فيها سوريا كما لبنان وأكثر؛

د – العودة الى الثقة بالجيش اللبناني وبقيامه بواجبه في حماية المخيمات من كل عدوان اسرائيلي، بعدما كان الجيش قد طُرد من منطقة الجنوب ومنعته "الفصائل الفلسطينية" من ممارسة شرف الدفاع عن ارضه خلال اجتياح 1978 الذي تلازم مع كمب ديفيد. "ملاّ صدفة"!!!

وقد نشأت من حال الفوضى التي عمت الجنوب "حركة المقاومة الجنوبية" التي منها ولد "حزب الله"، لأن الجيش كان مغيّباً!!!

- تحية الى السلطة الفلسطينية التي طالب أمس بالذات رئيسها لبنان بقبول "سفارة فلسطينية" في بيروت (كما في باريس مثلاً) وعندنا ان تلبية الطلب، أو مجرّد الرغبة، من شأنه أن يساعد السلطة الفلسطينية – قبل أن تعلن "دولة فلسطين" في ما تحرر من الأراضي وما سيتحرر لاحقاً - على ممارسة "حالة دولية سيادية" تكون مفتاح توزيع الأدوار بين السلطة والثورة الداخلية وسلاح المخيمات. ويكون التنسيق في تحمّل هذه المسؤولية بين لبنان الدولة، والسلطة الفلسطينية، والدولة (لا المخابرات!) السورية محك قدرتنا جميعاً، في مسار ثلاثي، على التصدّي لاسرائيل والتعامل مع الديبلوماسية الدولية (اميركا، روسيا، واوروبا، في اطار الأمم المتحدة أو في رعايتها أو على الأقل مشاركتها) بما يتجاوز التصريح الصبياني الذي أدلى به مسؤول لبناني بصورة غير مسؤولة قائلاً أن "سلاح المخيمات يجب ان ينتظر حل القضية الفلسطينية"... مما يؤدي الى استنقاع لبنان واسترهانه في حال فوضى سلاحية، واضطراب أمني الى انتهاء العالم من معالجة "أزمة العصر الحديث"، فلسطين...

ومن هذه المنطلقات، يمكن ان تمضي دمشق من جديد في مساعيها الهادفة الى استئناف المفاوضات مع اسرائيل (ديبلوماسية استئناف الحرب، حرب 1973انما من دون سلاح)، على ان تتلاءم هذه المبادرة مع العودة الى اعتماد وفد سوري – لبناني (كما كان الحال بعد مدريد) يطرح قضية تحرير شبعا ومزارعها قبل نزع سلاح "حزب الله" المعترف بدوره بموجب "اتفاق نيسان" الذي يُفترض ان يكون لا يزال قائماً.

وفي وسع سوريا اذذاك ان تعود الى "بازاراتها" مع واشنطن، انما من غير منطلق السعي الى استعادة لبنان، لأنه يكون هو شريكها الكامل السيادة المتساوي في حقوق المفاوضة.

وينعم الوفد السوري – اللبناني بتأييد ومساندة من السلطة الفلسطينية التي "توظف" في المفاوضة وزن المخيمات، انما مضافاً الى قدراتها الداخلية، وليس كمشروع حرب أهلية فلسطينية كما تريد اسرائيل، وكدنا نقع، كالعادة، في الفخّ الذي نصبته لنا جميعاً، ولسوريا بنوعٍ أخصّ التي كانت ستكون أول القافزين الى هاوية الفخ!

نعود الى الجغرافيا، بل الجغراسيا العربية الأوسع أفقاً. الى العراق بالذات وانطلاقاً منه:

تطويق الحرب العراقية والجهاد الزائف و"المد الشيعي" المصطنع

استئناف المفاوضات مع اسرائيل يمكن ان يتلازم، باتفاق الديبلوماسية الدولية، مع منع التسلل من سوريا الى العراق... الأمر الذي يفتح أبواب التعاون الاقليمي والدولي لتهدئة "الحرب الأهلية" المتسعة الدائرة في العراق واقفال أبواب "الفخ الارهابي" الذي يكاد يؤدي من حيث لا يريد عاقل الى "فيض مد الارهاب" الى دول عربية أخرى، كالسعودية وربما الأردن ومعهما أكثر من امارة على ضفاف الخليج، بأكثر من حجة وقناع.

يتطلب ذلك التزام الدول العربية كلها بـ"الحرب على الارهاب"، بل "الجهاد الحق" ضدّه كما قررت الجامعة العربية مرات، من غير قدرة على تنسيق خوضها تلك الحرب...

أفما آن أوان انتقال الجامعة العربية (التي يتحرّك أمينها العام في هذا الاتجاه) من حال "المكانك راوح" الى حال التقدم العملاني؟

هذا هو الأوان، أو يشتعل العالم العربي كله بمئة حرب وحرب، بالذات في الوقت الذي تبدأ تلوح في أفقه طلائع الانقسامات في الجبهة البن لادنية، بل طلائع التردد اللاهث الذي أول مظاهره المناداة (في بعض الاسواق العربية ثم الاسلامية الآسيوية) الى المزيد من التمويل والتجنيد.

خاتمة، نعود نتوجه، عبر الشقيقة سوريا، الى المجموعة العربية التي يعتريها الذهول، بالسؤال الأساسي الأهم:

أين "القرار الاستراتيجي" بالسلام الذي يردد البعض تلو البعض انه يلتزمه؟... كيف، إن لم يكن بمبادرة رؤيوية شجاعة كالتي نرسم؟

والمشروع السعودي، ثم العربي بالتبني(قمة بيروت)، متى أوانه إن لم يكن الآن، والقلعة السعودية بالذات صارت تتجرأ على تهديدها التيارات الجاحدة؟

والدستور العراقي، كيف نساعد على اقامته، متوازناً، ملائماً لكل الفرقاء، بغير مبادرات السلام؟ بحرب ابادة بين المذاهب والاعراق؟

ثم، ثم... ألا يجدر بالعرب التحسب لمصالح الدولتين الكبيرتين الشقيقتين في الإسلام – على اختلاف المذاهب والمد المذهبي — وكلتاهما يراودها حنين امبراطوري، فارسي هنا وعثماني هناك، لعله مشروع بالنسبة اليهما، لكنه في غاية الخطورة القومية بالنسبة الينا؟

اذا كانت "حرب تشرين" قد انتهت ديبلوماسيتها المصرية الى استعادة سيناء (واستعادة أرض الوطن وناسها أهم من انقاذ النظام واسياده الحكام على حساب الارض!!!) فهل يعجز الذين خاضوها عن الانطلاق في ديبلوماسية لا تستعيد الجولان فحسب، بل تساهم في انقاذ لبنان بدل ان تتلهى في محاولات اشعال حروبه الدفينة، وحروب الفلسطينيين فيه وعليه في حين كان يجب مساعدة الفلسطينيين على تأمين اجماعهم للعمل معاً في سبيل اقامة دولتهم في أرضهم، لا في "وطن بديل"، لبنان كان، أو سواه...

مثلاً ، سوريا التي قيل انها تعرض تجنيسهم!!!

أو العراق الذي قيل كذلك ان أراضيه المحروقة ستحتاج في غدٍ ولو بعيداً الى قدراتهم لإعادة تعميرها!!!

مصادر
النهار (لبنان)