أثارت قضية تهريب اشخاص عبر الحدود اللبنانية - السورية اهتماماً واسعاً في الآونة الاخيرة، على الصعيدين المحلي والدولي، فأعادت طرح مسألة ترسيم الحدود بين البلدين، وضبطها والحفاظ على أمنها، من جهة البقاع شرقاً، و»النهر الكبير» شمالاً.

وبين خبر توقيف متسللين، بينهم عراقيون وسوريون، وأخبار تهريب السلع، وفي مقدمها المحروقات والسجائر، تعيش المناطق الحدودية في شمال لبنان على هوى النهر الذي يربطها بسورية أكثر مما يفصلها عنه.

جالت «الحياة» في تلك المناطق، وزارت المعابر التي لا تزال مفتوحة للتهريب، والتقت «تجاراً عبر الحدود»، فكان هذا التحقيق.

ليس في «النهر الشمالي الكبير» الذي يشكل الحدود الطبيعية الفاصلة بين سورية ولبنان ما يفسر تسميته. فهو شمالي بالنسبة الى اللبنانيين، جنوبي بالنسبة الى السوريين. وعلى رغم وجوده ضمن الاراضي اللبنانية، وتشكيل ضفته الشمالية ما يفترض أنه الحد الفاصل بين البلدين، الا ان هذا التعريف يبقى في الاطار النظري لدروس الجغرافيا، لأن الواقع متغير بحسب شح مياه النهر صيفاً أو تدفقها شتاء. فالحدود تضيق أو تتسع والبلدان يقتربان او يتباعدان في حركة مد وجزر يحددها منسوب مياه النهر. هو أكبر من ساقية عندما يشح، وأصغر من نهر فعلي عندما يفيض. لذلك فان صفة «الكبير» التي الصقت به لا تدل على عمق أو عرض أو طول. فحتى طوله يتوقف عند سفح سلسلة الجبال الشرقية في منطقة وادي خالد، حيث تصبح الاراضي السورية واللبنانية امتداداً طبيعياً لبعضها البعض. ولعل سكان تلك المناطق الحدودية، لبنانيين كانوا أم سوريين، تنبهوا بفطرة أهل القرى الى ان نهرهم ليس كبيراً فعلاً، فاكتفوا بأن اطلقوا عليه اسم «النهر»، ولم يقفوا عنده كحدود فعلية، كما لم يقف أبناء وادي خالد المجنسين حديثاً، عند حدود غير مرسومة لقريتهم.

والنهر، والحالة هذه، ما عاد يفصل البلدين بقدرما صار يربطهما. فالعائلات المنقسمة على جانبيه لا ينتظر أفرادها زحمة الحدود الرسمية على نقطة العبودية ليتبادلوا الزيارات. يكفيهم أن يشمروا عن ساقيهم وتبتل أقدامهم بالمياه لمدة لا تزيد عن خمس دقائق حتى ينتقلوا الى المقلب الآخر من الحدود.

ولا يقتصر التداخل السكاني والثقافي على نهر يقطع سيراً أو جسر يُجتاز بالسيارة. فمن النادر أن يصل الاسفلت الى طريق، مهما كانت فرعية، من دون أن يطلق عليها اسم «شارع الرئيس حافظ الأسد». والطريق التي تتسع لسيارتين تتحول بفعل خيال منفذيها الى «جادة» الرئيس الراحل أو أحد ابنائه. لذلك ليس من المستغرب أن يقطع التلامذة الصغار المسافة بين شارعين، ليرتادوا المدرسة، على احدى الضفتين. وليس من المستغرب ايضاً ان تجد مدرسة خاصة صممت واجهتها هندسياً على شكل كلمة «باسل» عربون صداقة وحسن جيرة وتستقبل طلاباً من البلدين. لا بل ان المستوصفات والمراكز الصحية السورية التي أقفلت كلها الآن، كانت منتشرة حتى في مركز القضاء حلبا، بكل علانية. الاطباء العاملون فيها هم ايضاً كانوا يعبرون الحدود يومياً، ويمارسون مهنتهم بأنصاف الاسعار، ومن دون تراخيص لبنانية تجيز لهم ذلك.

وفي هذا الجو من التداخل السكاني يبدو أي حديث عن التهريب الذي تضج به وسائل الاعلام أخيراً خارجاً عن سياق السائد والمتعارف عليه من المفاهيم. فيغدو التهريب في تلك المنطقة مصطلحاً تقنياً يقتصر استعماله على مخافر الشرطة ونشرات الاخبار، من دون أن يحمل حكماً أخلاقياً أو أن يكون له وقع معنوي على السكان أو المهربين أنفسهم. فبالنسبة الى هؤلاء، ليس التهريب سوى تجارة عادية الى أن تضبطه الشرطة، وتعرفه بغير ذلك. وبرأيهم فإن ما تصطلح القوانين على تسميته تهريباً يفترض عملاً غير شرعي عبر الحدود. أما وقد انتفت الحدود، «يصبح أي باب رزق حلالاً» حسبما يقول عبدالرزاق الذي يعمل مهرباً. فبالنسبة اليه «الحرام هو ما يغضب الله وليس الدولة». ولا يخجل عبدالرزاق بمهنته، وحتى عائلته وزوجته، وان خافوا عليه من الشرطة، لا يطالبونه بترك عمله لأنه لا يعني أكثر من كونه «تاجراً عبر الحدود، وليس مهرباً بالمعنى السيئ». فهو «لا يتاجر بالممنوع لا سمح الله». والممنوع هذه المرة يعني الحشيشة والمخدرات من دون المحروقات والاشخاص.

هنا، تصبح الامور أكثر نسبية وتضيق معاني الكلمات وتتسع بحسب قائلها والسامع معاً. فعندما توجه عبدالرزاق الى بلدة الدبابية حيث المعبر الآمن الى الجهة الاخرى، والذي لم تطله جرافة قوى الامن الداخلي، سأل مجموعة الشبان المنهمكين بتعبئة صفائح المازوت المهرب «من كبيركم؟» فقالوا «أؤمر». لم يراوغ الشاب العشريني وأفصح عن رغبته بالعمل معهم، لأنه ترك «كبيره» على اثر خلاف بينهما. و «الكبير» عادة هو التاجر اللبناني الذي يتعامل مباشرة مع السوريين ويزود تجار المفرَّق بالكميات التي يحتاجونها.

كان الشبان في الدبابية منهمكين في ملء صفائح بلاستيكية سعة الواحدة منها خمسين ليتراً من المازوت المهرب على البغال والحمير من الضفة الاخرى، لم يسألوا عن سبب الخلاف. فهذه أمور غالباً ما تحصل في مجتمع المهربين، وتتوقف المصالحة على مصلحة الطرفين. فان رأى التاجر ان مزوده يعطيه أسعاراً جدية همّ الى مصالحته وطلب رضاه، وان تمكن من مد جسور مع مزود آخر تخلى عنه. الشباب هؤلاء لم يتوقفوا عن العمل خلال التفاوض مع عميلهم الجديد، بل بقوا يشغلون المولد الكهربائي الذي يضخ المازوت من الخزان الى الصفائح، ويطفئونه ويراقبون امتلاءها ويحسبون الارباح المترتبة عنها. يكفيهم ما سمعوه من عبدالرزاق من أنه يملك «عدة كاملة»، وراحوا يسرعون في عملهم ليسلموا الطلبية في موعدها قبل أن يضرب المدفع ايذاناً بوقت الافطار. فمهمتهم التي تتطلب رشاقة ورائحة المحروقات الكريهة لم تمنعهم من صوم شهر رمضان. كما ان الصوم نفسه لم يمنعهم من ممارسة نشاطهم غير الشرعي. حتى الشيخ رباح الذي يملك محلاً تجارياً على الطريق العام، ويخفي في مستودعه صفائح المحروقات، لا يشعر أن ثمة تناقضاً بين كونه شيخاً يؤم المؤمنين وكونه يبيع سلعاً مهربة. فذلك كله خاضع مرة أخرى لمفاهيم فضفاضة ومتحركة كالحدود نفسها. لا بل يتشارك هؤلاء التجار بشعورهم أنهم يقدمون خدمة كبيرة للمستهلكين كان من واجب الدولة التي تلاحقهم أن تقوم بها. ففيما بلغ السعر الرسمي لصفيحة الماوزت 25 ألف ليرة لبنانية (أي ما يعادل 17 دولاراً أميركياً)، يوصلها عبدالرزاق وشركاؤه الى الزبائن بـ15 الفاً (أي ما يعادل 10 دولارات). وخلال شهر واحد ارتفع السعر 5 آلاف ليرة أي (3 دولارات) بفعل ازدياد الطلب على المحروقات قبل فصل الشتاء. والسعر الذي يدفعه المستهلك اللبناني لا يحدده عبدالرزاق أو سواه في السوق السورية، بل مجموعة المزودين «الكبار» الذين يتحكمون بالسوق بحسب العرض والطب.

ولا يعتمد التجار على المستهلكين الموسميين من أسر وافراد يتمونون شتاء للتدفئة، بل يتكلون في شكل أساس على أصحاب مولدات الكهرباء وأصحاب المحطات. ففي منطقة لا يصلها التيار الرسمي أكثر من ست ساعات في اليوم، يشترك المواطنون وأصحاب المصالح والمصانع الصغيرة في خدمة المولد الكهربائي الخاص، ويدفعون بدلاً شهرياً تتفاوت قيمته بحسب استهلاكهم للطاقة. أما المحطات فتشتري بأسعار سورية، وتبيع بأسعار لبنانية، وتزود على وجه الخصوص السيارات العمومية التي لم يلتزم اصحابها بقرار وقف العامل منها على المازوت. وتكاد حركة التهريب اللبناني تنحصر بين نقطة العبودية الرسمية صعوداً نحو منطقة وادي خالد الجبلية. أما نقطة عبور الدبوسية، التي يرسمها الخط الممتد جنوباً من العبودية الى البحر، وتحاذي مجرى النهر قبل مصبه فهي مجال عمل فلسطينيي مخيم نهر البارد. هناك، حيث يحمي النهران (الكبير والبارد) حركة تهريب ناشطة أيضاً، يتخذ البحر عمقاً جديداً، وتصطبغ مراكب الصيادين بألوان لا تشبه دائماً لون السمك الذي تلتقطه شباكهم.

واذا كان في مقدور القوى الامنية والجمارك اغلاق بعض المعابر على النهر، باعتبار انها ردمت بعض النوافذ على مجاري المياه بسواتر ترابية، إلا أن البحر والنهر الآخر الخاضع لسلطة الفلسطينيين يظلان عصيين على السلطات اللبنانية. وراق عبدالرزاق ورفاقه الجدد في الدبابية السخرية من المعابر الاثني عشر التي قالت قوات الامن انها أغلقتها، فهي «لم تكن شغالة بأي حال من الاحوال». أما صعوبة التهريب التي ازدادت بعد الانسحاب السوري من لبنان فمردها التشديد من الجهة السورية وليس من قبل اللبنانيين. فتداخل الصلاحيات بين الجمارك والأمن الداخلي، و «المساعدة» التي يقدمها فريق الى آخر بمبادرة حسن نية لا تشد من رخاوة الحدود ولا تضبطها. حتى توقيف 15 متسللاً منتصف الاسبوع الماضي، كشف عنهم مصدر أمني رفيع رافضاً الكشف عن اسمه، وقال ان بينهم «عراقيين ومصريين وسوريين»، لا يتعدى كونه مصادفة في التوقيت (خاطئ للمتسللين)، ولا يندرج ضمن خطة أمنية محكمة. فرجال الأمن أنفسهم يتحولون في لحظة مستهلكين كغيرهم، يبحثون عن التوفير. فيتوجهون الى الحدود، الرسمية هذه المرة، مستعينين ببذاتهم الزرقاء لملأ خزانات سياراتهم بوقود رخيص، وحمل صفيحة أو اثنين الى المنزل.

وفجأة يتحول الفارق بين الحدود الرسمية في العبودية وغير الرسمية في الدبابية، مجرد فارق في «رسمية» المستهلكين أو «مدنيتهم».

واذا اتخذ التهريب اليوم اهتماماً كبيراً، الا ان شفافية الحدود ليست بالأمر المستجد او الطارئ. فمنذ زمن بعيد وحتى وقت قريب، هو وقت الانسحاب السوري، والعبور في الاتجاهين يحدث يومياً وفي شكل طبيعي بمباركة مشتركة من اللبنانيين والسوريين. ففي ذلك الوقت كان العبور يسمى عبوراً، والتسلل يسمى عبوراً، والتهريب ايضاً يسمى عبوراً.

فأم مروان السيدة البدينة التي تحمل مسدساً، كانت تنقل بسيارتها محروقات وقطع سلاح خفيفة. وعندما بنت منزلاً كبيراً له حديقة، تهامس ابناء قريتها بأن «الصفقة هذه المرة لا شك كانت كبيرة». كذلك العم سليم، خزن في بئر منزله من الاسلحة والذخائر ما يكفي لاندلاع حرب، وباعها لكل من رغب في الشراء، خصوصاً الفلسطينيين. لكن ذلك كان في زمن العبور.

عبدالرزاق ينفي نفياً قاطعاً أن تكون له صلة بهذا النوع من النشاطات. «مازوت وبنزين وغاز... سلاح وناس أعوذ بالله». لكنه في المقابل لا ينكر انه سمع عن أشخاص «يعبرون» فالأمر لا يتطلب الكثير، تاركاً يقينه «على ذمة الذين شافوا وحكوا».

والعدة التي يحتاجها عبدالرزاق لممارسة نشاطه سيارة من طراز مرسيدس 200، صندوقها عريض، تحضر لدى الميكانيكي لتصبح قابلة للنقل. أولاً ترفع السيارة من خلف وتضاف اليها اسطوانات حديدية تسمى «كعكات» بلغة الميكانيكيين، تثبت فوق العجلتين الخلفيتين لجهة العوادم (amortisseurs). وينزع المقعد الخلفي ليصبح امتداداً للصندوق فيتسع المجال لأكبر قدر ممكن من الصفائح البلاستيكية. وبهذا تصبح السيارة مرتفعة في شكل يسمح بتحميلها فوق حمولتها العادية. ومهما انخفضت بفعل الوزن الزائد تبقى بارتفاع غيرها فلا تثير الشبهات. أما الباصات الصغيرة فتجهيزها مختلف، ويتضمن خزاناً. اولاً يصنع الخزان لدى الحداد بقياسات محددة. الارتفاع لا يتخطى الخمسين سنتمتراً والطول يمتد من الباب الخلفي حتى مقعد السائق. وأحياناً يوضع فوق الخزان تراب أو أكياس أو أي شيء يساعد في التمويه. ويصنع الخزان من الحديد المصفح لأن المهربين اليوم تعلموا درساً ممن سبقهم. فرجال الأمن يمزقون الخزان ويحدثون فيه فجوات لئلا يعاد استعماله اذا ألقوا القبض على أحدهم. لكن حتى تفادي رجال الأمن له حيل. فالمهرب يسير ضمن «قافلة». يحاصره «كاشفان» (أي سيارتين) يؤمنان له الطريق. فينطلق الكاشف الاول ويحرص على خلو المكان من الدوريات. فيعطي اشارة الى السيارة المحملة غالباً ما تكون رنة هاتف واحدة (Missed call) فينطلق. وبعد عشر دقائق ينطلق الكاشف الثاني ليؤمن له «ظهره».

وفي حال الاشتباه بأي دورية أو حاجز تعطى الاشارة وينحرف صاحب الحمولة عن الطريق. واستفاد هؤلاء المهربون من ثورة التكنولوجيا، فغالبيتهم تحمل رقمياً خلوياً، سورياً ولبنانياً لتأمين حسن سير الاعمال، على رغم ان ارسال شركتي الهاتف اللبنانيتين يبقى نافذاً حتى مشارف مدينة حمص، مثلما يعمل بث الشركات السورية في بعض المناطق اللبنانية.

والنهر الذي ينضح محروقات وناساً وسلاحاً «على ذمة الذين شافوا وحكوا» كما يصر عبدالرزاق، ينضح أيضاً دخاناً. فأصناف السجائر التي تملأ الدكاكين والمحال التجارية من «مارلبورو» و «كنت» و «جيتان» كلها تصل من الضفة الاخرى عبر مزود واحد. لذلك فإن سعر علبة السجائر هو ألف ليرة فيما السعر الرسمي يتراوح بين 1750 و2000. فـ «الكبير» في هذه السوق سياسي مقرب من السوريين، وهم أنفسهم يحمونه، ويمنعون احداً من العمل في حيزه. حتى القوانين اللبنانية التي تغرّم مهرب المازوت وتصادر بضاعته من دون أن تحتجزه، تعتبر تهريب السجائر جناية. يضحك بائع السجائر ممن يسأله «ادارة أو تهريب؟» ويجيب وهو يناول زبائنه الطلبات ان السجائر «النظامية» لا تصله، لأن مزوده بعيد عن «الريجي» بعد الاخيرة عن «النهر».

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)