الدعوة الى لبننة القرارات الدولية المتعلقة بلبنان وفي مقدمها القرار 1559 والتي أطلقناها الاسبوع الماضي أخطأ عدد من المعنيين في فهمها. بعضهم عن حسن نية وبعضهم الآخر عن سوء نية. اذ تصوروا ان المقصود بها هو النفخ في عصبية لبنانية بغية استعمالها في مواجهة سوريا وفي الوقت نفسه في مواجهة حلفائها اللبنانيين، وهم ليسوا قلة في المحصلة، وحلفائها غير اللبنانيين المقيمين في لبنان، والمقصود الفلسطينيون المقيميون على أرضه سواء داخل المخيمات أو خارجها أو على الأقل الذين منهم ارتبطوا من زمان بعلاقات استراتيجية وسياسية مع سوريا وكانت مواقفهم النظرية والعملية في لبنان ومنه ترجمة لها فضلاً عن الذين توافقت مصالحهم مع المصالح السورية في مرحلة من الزمن الأمر الذي وفّر لهم الحماية أو على الأقل تجنب الاستهداف المباشر. واعتبر هؤلاء (أي الذين أخطأوا في فهم اللبننة) الخطوات العملانية التي أقدم عليها الجيش اللبناني في الاسبوعين الماضيين - سواء في اماكن الوجود الفلسطيني المتنوعة أو في جوار المعابر غير الرسمية أو غير الشرعية بين لبنان وسوريا - اعتبروها تطبيقاً لمفهوم اللبننة. واعتبروا ايضاً الخطوات نفسها كما الدعوة الى اللبننة جزءاً من سياسة او خطة وضعها المجتمع الدولي بل زعيمته الاحادية الولايات المتحدة حليفة اسرائيل وحاميتها الأمر الذي يبيح كشفها والتصدي لها ومواجهتها بكل الوسائل.

ما المقصود بلبننة القرارات الدولية كي يفهمها على حقيقتها من لم يفهمها وكذلك الذي تعمّد عدم فهمها؟

ليس المقصود طبعاً تجميع اللبنانيين أو أكثريتهم الساحقة ضد كل من هو وما هو غير لبناني.

وليس المقصود أيضاً إحياء فكرة الانعزال التي استهوت في مراحل معينة وخصوصاً أيام الحرب فئة من اللبنانيين وذلك بعدما شعرت، عن حق او عن باطل، انها مهددة وان الانعزال عن المحيط الطبيعي للبنان والارتماء في احضان محيطه غير الطبيعي اذا جاز التعبير فضلاً عن المحيط المعادي له وللعرب على وجه العموم يشكلان الحماية الأفضل لها. علماً ان هذه الفئة تخلت من زمان عن الفكرة المذكورة رغم ان عدداً من اشقاء الداخل واشقاء الخارج لم يقوموا بما توجبه عليهم الاخوّة بغية طمأنتها واقناعها بأنها انتهجت الخيار الوطني اللبناني الصحيح. وليس مهماً الخوض هنا في اسباب التخلي عن الانعزال، مثل القول انه كان نتيجة هزيمة سياسية وعسكرية او انه نتيجة تحكيم العقل، أي فتح ابوابه بعدما تسبب اتباع القلب وما "يهوى" كما يقال بالكثير من المصائب والكوارث والأهوال.

وليس المقصود ثالثاً توفير ظروف شعبية وسياسية ملائمة لاستخدام الجيش والمؤسسات الامنية فضلاً عن الأجهزة - في حال بقائها فاعلة - للقيام بقمع مماثل للقمع الذي كان يمارس في السابق ولكن في حق جهات وفئات اتهم بعضها انه كان غطاء للقمع السابق في حين اتهم بعضها الآخر انه كان اداة له أو أحد ادواته.

أما المقصود من اللبننة فهو تنادي اللبنانيين أو بالأحرى "مكونات" الشعب اللبناني حتى التي منها تعتقد انها مستهدفة بالقرارات الدولية المعروفة الى الاجتماع بل الى التحاور أولاً لاجراء تقويم دقيق ومجرّد بعيد من الاجواء والمصالح الفئوية والخاصة، لحقيقة الوضع في لبنان. وثانياً لاجراء تقويم لحقيقة الوضع في المنطقة. وثالثاً لاجراء تقويم لحقيقة الوضع الدولي. ورابعاً لمحاولة استخلاص الجيد من القرارات الدولية او المفيد للبنان والبحث في كل وسائل تنفيذه ولمحاولة استبعاد العناصر السلبية فيها او التي تشتم جهات لبنانية معينة ان فيها مواقف "مسبقة" وسوء نية ليس حيال لبنان وحده بل حيال العرب وقضاياهم المحقة وما أكثرها، وهنا قد يعتقد البعض ان وراء هذا الكلام طوباوية او مثالية لم يعد لها مكان في هذا الزمان الرديء. لكن هذا الاعتقاد في غير محله لأن استمرار الجميع في لبنان واقصد الجميع في تجاهل الماضيين القريب والبعيد وفي عدم أخذ العبر منهما رغم العَبَرات أي الدموع التي أسالاها من عيون اللبنانيين سوف يعيد هذين الماضيين. وفي حال حصل ذلك لا سمح الله فان لبنان و"شعوبه" لن يجدوا خارجاً شقيقاً أو خارجاً صديقاً أو حتى مجتمعاً دولياً مستعداً لمساعدتهم. علماً ان اللبنانيين يعرفون او يفترض ان يعرفوا ان التغييرات والتطورات "الايجابية" التي حصلت في بلادهم والتي دفعوا ثمنها الكثير من الدماء والتي قد لا تظهر ايجابيتها النهائية قبل ان يدفعوا مجدداً مزيداً من الدماء كانت وراءها الصدفة وتلاقي مصالح الكبار في العالم واخفاق الاصغر منهم في ادارك ذلك. كما كانت وراءها الدماء الزكية للشهداء الجدد في لبنان، أحيائهم والأموات، وفي مقدمهم الرئيس رفيق الحريري. و"الصدفة" لا تدوم طويلاً من حيث الزمن. أما تلاقي المصالح فأبديّ اذا جاز العبير. لكن اطرافه يتغيرون تبعاً لتغيراتها.

وأما توقيت الدعوة الى اللبننة فهو بأهمية هذه الدعوة. فلبنان كله ومعه العالم ينتظر تقرير ميليس أي تقرير لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الرئيس الحريري. وسواء كان التقرير "ابيض" أو "اسود" أو "رماديا" كما يظن البعض او ربما يتمنى فان انعكاساته على لبنان لن تكون مريحة. ذلك ان لبنان "مفخخ" من شماله الى جبله الى جنوبه الى بقاعه الى عاصمته. فكل القادرين على اشعال فتيل "التفخيخات" الكثيرة، من اصدقاء واعداء واشقاء، من لبنانيين ومن مقيمين في لبنان، موجودون وبكثرة والحمد لله على ساحته. وحدهم اللبنانيون قادرون رغم صعوبة المهمة على نزع صواعق هذه التفخيخات اولاً بتضامنهم وباعطائهم الاولوية للانتماء الوطني على أي انتماء آخر. وثانياً باقتناعهم بأن لبنان اما يكون وطناً حراً وديموقراطياً وسيدا لجميع ابنائه وبالتساوي (أي شعوبه) أو لا يكون. اما المجتمع الدولي فدوره مهم على هذا الصعيد لكنه وحده غير قادر على صنع الاعاجيب. فالاعاجيب، على ندرتها، يصنعها اللبنانيون. في أي حال قد يعتبر البعض اننا في هذا "الموقف" كما في غيره أدمنّا التشاؤم واننا لا نرى الا الظلام والتوقعات السوداء واننا نهوّل لحساب جهات معروفة وتارة اخرى مجهولة. والحقيقة اننا نشعر بالاسى كلما حصل بعض ما تم التحذير منه ونشعر بالارتياح كلما اخطأنا في توقعاتنا. وجل ما نطلبه واللبنانيون معنا هو ان لا يخطئ المعنيون على تنوعهم من اللبنانيين ومن غير اللبنانيين الحسابات فالتوقعات. وهو ايضاً ان لا يظن احد في الداخل ان في وسعه حسم الموقف وحده أو ان استعمال القوة مفيد في الحسم وان لا يظن أحد في الخارج على انواعه ان الحريق في لبنان يمكن ان يبقى محصوراً فيه كما كما كانت الحال ايام حروبه الأهلية او غير الأهلية بين عامي 1975و1990.

مصادر
النهار (لبنان)