العلاقات الحدودية اللبنانية السورية محور الحديث المتداول على كل الصعد وبين كل فئات المجتمع ان كان بهدف اثارة الموضوع من اجل وضع الآليات المناسبة للحل او بهدف بلبلة الامور ووضعها في اطار تهريب ما هو ممنوع من دخول اشخاص بطرق غير شرعية او تهريب اسلحة، لكن في الحالتين لا يمكن نكران ان هناك حدوداً مفتوحة وفي كثير من المناطق حيث تبلغ اقل بسبعة كيلومترات من نصف الحدود الاجمالية للبنان، تبدأ من مزارع شبعا عند اطراف جبل الشيخ في الجنوب الشرقي للبنان مرورا بكل السلسلة الشرقية وسهول بلدتي القاع والهرمل في الشمال الشرقي، وقرى وادي خالد وبلدات سهل عكار عند النهر الكبير الجنوبي في اقصى الشمال اللبناني ويبلغ طول هذه المناطق 278 كلم من اصل 570 كلم اجمالي الحدود اللبنانية.

مشكلة الحدود قديمة جدا وعمرها من عمر لبنان وهي رسمت اثر اتفاقية سايكس بيكو اوائل القرن الماضي عندما ضمت الاقضية الاربعة الى لبنان ليصبح لبنان بوضعه الحالي ولتصبح الحدود بين البلدين منفصلة عبر قناة ري او اشارة سهم تدلّ على تبعية الاراضي للدولة المعينة.

هذا التقسيم للحدود حمل معه انقساماً لبعض العائلات حيث ان كثيرا من ابناء القرى الحدودية المجاورة ينتسبون الى العائلة الواحدة وكل يحمل جنسية البلد التابع اليه. هذه الحالة الاجتماعية وطبيعة الحدود ونمط الاقتصاد وتزامن المواسم الزراعية وسهولة حركة التنقل امنت المناخ الملائم لانتقال البضائع بين البلدين بداية وفقا لحاجة العرض والطلب ولقدرة تأمين البضائع بالاسعار المتدنية ولتصبح في ما بعد عملية كبيرة للتهريب بين لبنان وسورية حيث لم تنفع كل الاتفاقيات التي عقدت بين البلدين لتنظيم عملية نقل البضائع طوال العقود الماضية او تلغيها او تحد منها ان كان بسبب صعوبة حلها او لغياب القرار السياسي الفعلي لحل هذه الازمة.

عمق العلاقة الجغرافية والبشرية بين لبنان وسورية كان الدافع الاول للحاجة الفعلية الى عملية انتقال طبيعية للمواسم والبضائع بين البلدين وان اتخذت في بداياتها شكل التبادل في انواع المنتوجات لتتطور لاحقا الى عمليات تجارية تحولت في الفترة ما بين اواسط سبعينات القرن الماضي حتى نهاية القرن الى عمليات منظمة كان النظام السوري يتكئ عليها لحل ازماته الاقتصادية وتصدير منتوجاته الزراعية والقطنيات المصنعة الى السوق اللبنانية ويستورد منه المواد الغذائية المدعومة في حينه والمواد التي كانت تفرض عليها رسوماً جمركية مرتفعة مثل الآلات الكهربائية والزجاج واطارات الكاوتشوك والاخشاب وغيرها.

والحاجة الى انتقال البضائع المشار اليها ذهابا وايابا فرضت شق طرق جبلية على حساب المهربين تحت انظار الاجهزة الامنية اللبنانية التي كانت مهيضة الجناح والسورية التي عمد بعض اقطابها الى اجراء عمليات منظمة ومبرمجة لم يكن ينقصها الا اشارة جمركية على شاحنات التهريب التي كانت تسير في طابور يمتد الى عشرة كيلومترات يضم مئات الشاحنات دفعة واحدة. وقد استطاع بعض ضباط الاجهزة خلال فترات وجيزة تحقيق ارباح خيالية وصلت الى مئات ملايين الدولارات وذلك كله على حساب اقتصادات البلدين.

وهذه الحال وان خفت وتيرتها خلال السنوات الخمس الماضية نتيجة لسياسة الانفتاح الاقتصادي وفتح الأسواق امام الاستيراد الحر الذي شهده الاقتصاد السوري تحولت عملياتها التهريبية الى منتوجات من نوع جديد وفي الاتجاه المعاكس.

اما اليوم فتتركز عملية التهريب على مادة المازوت وبعض المنتوجات الزراعية والغذائية والمواشي من سورية الى لبنان بسبب الفرق بين سعر المازوت بين سورية ولبنان ففي حين يبلغ ثمن صفيحة المازوت في سورية 160 ليرة سورية اي ما يعادل 4800 ليرة لبنانية يبلغ السعر الرسمي لصفيحة المازوت في لبنان نحو عشرين الف ليرة اي اكثر من اربعة اضعاف السعر السوري، هذا الامر يجعل اهتمام المهربين المدعومين والمحميين ينصب في هذا الاتجاه فأنشئت شبكة ضخمة على طول 278 كلم من الحدود واستحدث اسطول نقل يبدأ من بيك آب محمل بخزان يتسع لألفي ليتر وصولا الى صهاريج كبيرة تتسع لاكثر من عشرة آلاف ليتر.

عمليات النقل تتم على اكثر من مرحلة تبدأ بتحميل مادة المازوت من المحطات السورية عبر صهاريج سورية لايصالها الى الحدود لتبتعد عن الانظار المباشرة للمواطن وليس للاجهزة التي غالبا ما تكون شريكة في العملية ثم تسحب المواد الى صهاريج لبنانية تنتظر غروب الشمس للانتقال الى الاراضي اللبنانية ويمكن معرفة تنقلها ليلا من خلال انوار مصابيحها في الاودية التي تسلكها ومن ثم افراغها في خزانات محطات المحروقات لبيعها للمواطن اللبناني باثني عشر الف ليرة اي أقل بستة آلاف ليرة عن السعر الرسمي اللبناني.

وعمليات التهريب هذه تؤكدها الادارات الرسمية اللبنانية من خلال البيانات عن حجم الاستهلاك المحلي وحجم الاستيراد والسلطات السورية التي اثارت الامر في اكثر من جلسة لمجلس الوزراء. المستفيد من استمرار العملية مجموعة اطراف. ففي تهريب المازوت على سبيل المثال الاطراف المستفيدة هي:

- الجهات السورية الداعمة والراعية لعملية التهريب والتي تنال حصة الاسد حيث ان عمولتها عن كل صفيحة مازوت لقاء غض الطرف والتسهيلات المقدمة تقدر بسبعين ليرة سورية اي ما يساوي 2100 ليرة لبنانية.

- اصحاب الصهاريج السورية والذين يتقاضون بدل اتعاب نقل عن الصفيحة ما يقارب الدولار اي 1500 ليرة لبنانية.

- اصحاب الصهاريج اللبنانية اضافة الى الاتاوات التي تدفع للاجهزة الغاضة الطرف تبلغ حصتهم اكثر من دولار ونصف عن الصفيحة الواحدة اي ما معدله 2150 ليرة لبنانية.

- اصحاب محطات المحروقات اللبنانية حيث تبلغ عمولتهم عن كل صفيحة الف وأربعمئة وخمسين ليرة لبنانية اي ما يعادل ثلاثة اضعاف عمولتهم التي يتقاضونها من الدولة اللبنانية.

- المواطن والمزارع اللبناني له مصلحة في الأمر لأنه يوفر على نفسه ستة آلاف ليرة لبنانية.

وفي حين تفضل الجهات المسؤولة عدم الحديث في هذا المجال تشير بعض المصادر الى ان لبنان يستهلك يوميا في فصل الصيف ما بين مليونين ومليونين ونصف المليون ليتر ما عدا استهلاك محطات توليد الكهرباء ويرتفع هذا الاستهلاك في فصل الشتاء الى أربعة ملايين ليتر يوميا، وان نسبة التهريب تتجاوز الخمسين في المئة بالحد الادنى.

ويقول احد الذين يعملون على خط التهريب ان الحاجة هي التي جعلته يسلك هذه الطريق على حد قوله "من اجل تأمين قوت عيالي واقساط جامعاتهم ومدارسهم ولو كان ذلك متوافرا لي ولغيري لما عملت في التهريب". اما عن عدد الصهاريج التي يدخلها هو من سورية الى لبنان فيقول: "الامر يتوقف على العرض والطلب ففي فصل الصيف معدل عملنا ثلاثة أحمال في الاسبوع نتقاضى عنها ما يقارب الالفي دولار ندفع منها بدل إتاوات للاجهزة الضامنة واكلاف محروقات واستهلاك وصيانة اكثر من الف ومئتي دولار وتبقى حصتنا (اتعابا وايجارا) بهذه المغامرة نحو ثمانمئة دولار اسبوعيا، مضافا الى ذلك انه في بعض الحالات تتغير أمزجة الاجهزة او تتلقى تعليمات بالتشدد فنتعرض للملاحقة القانونية حيث ان كثيرا من زملائنا اهين واطلق النار على صهريجه وصودر البعض الآخر".

وثمة عمليات تهريب من نوع آخر وبطريقة اخرى فمثلا في الاراضي الحدودية في سهلي بلدتي القصر الهرملانية والقاع حيث التداخل بين المنازل والاراضي يصعب فيها تحديد مكان الإنتاج وكميته ونوعيته وهنا تبدأ عملية تهريب للبضاعة تبعا لسعر السوق والطلب والعرض فيمكن للمزارع السوري ان ينقل كل انتاجه الى لبنان عبر جيرانه ويبيعه في الاسواق اللبنانية كما يمكن ان يحصل العكس خصوصا والحال هذه ان المزارع في كلا الطرفين يؤمن كلفة انتاج محصوله من البلد الذي يوفر له اسعاراً اقل. والعمليات الحدودية بين لبنان وسورية معقدة يصعب حلها بسن القوانين او الاتفاقيات التي لا تساوي بين المصالح المشتركة للمواطنين لان عمليات التهريب هي كرأس المال الذي يبحث عن المجرى السهل للربح ويعبره.

مصادر
صدى البلد (لبنان)