ذكرت تقارير صحافية نشرتها وسائل الإعلام في الاسبوع الماضي ان الإدارة السورية قدمت للأميركيين عرضاً سخياً لا يمكن رفضه، ويتعلق بالمساعدة في ضبط الحدود على الجانب العراقي، وصولاً إلى المساعدة في ترتيب وضع العراق. وعلى النحو نفسه تعهدت سوريا، ودائماً بحسب التقارير، نزع سلاح "حزب الله" اللبناني، فضلاً عن اشكال المساعدة على الجانب الفلسطيني. لكن ما اعقب زيارة وفد الحزب الجمهوري الاميركي الذي وصفته التقارير الصحافية بأنه قريب من دوائر القرار في الإدارة الاميركية، بدا مخالفاً لكل توقع على هذا الصعيد. لم يلبث الرئيس جورج دبليو بوش ان ذكر في خطابه الأسبوع الماضي سوريا وايران في معرض التهديد، وصرح ديفيد وولش مساعد وزيرة الخارجية الاميركية لشؤون الشرق الأدنى بعد لقائه بالرئيس المصري حسني مبارك، ان سوريا "لن تغير سلوكها".

من نافل القول ان المعلومات التي تذاع وتنشر في الصحافة العالمية هي معلومات مدروسة، وان بعضها لا يتعدى اشارات التنبيه إلى النيات الاصلية والمبيتة. وانه من الممكن ان يصرح اي مسؤول تصريحاً هجومياً يتراجع عنه في اليوم التالي. ومثل هذه التصريحات المتناقضة تكاد تبدو خبز الصحافة اليومي، حيث يبنى عليها الكثير من الاستنتاجات المتسرعة احياناً. لكن قراءة في العرض السوري، مثلما وصفته الصحف ووسائل الإعلام، تبدو في حد ذاتها معاكسة للاستنتاج الذي ذهبت إليه هذه الوسائل في صورة مباشرة، حين افترضت ان العرض سخياً ولا يمكن رفضه.

يحمل هذا العرض اشارات بالغة الاهمية، والأرجح انه ينطلق من مسلمة مفادها ان سياسة الولايات المتحدة الاميركية في العراق تقع في ما سماه مستشار الامين العام للأمم المتحدة الوزير اللبناني السابق غسان سلامة "المأزق الكامل". وهذا يفترض ان الولايات المتحدة تعد العدة حثيثاً للانتقال من سياستها الهجومية في الشرق الأوسط إلى اعتماد سياسة دفاعية، قوامها الاعتماد على حلفاء محليين يمكن الوثوق بهم. وبكلام آخر يفترض وصف هذا العرض بالسخاء ان الولايات المتحدة التي تعاني ما تعانيه في العراق تخشى او تخاف من مستنقع سوري او مصري او فلسطيني في مصر او سوريا او فلسطين. والحق ان خطاب الرئيس بوش الأخير بدد هذا الاعتبار تبديداً كاملاً، أقله في المرحلة الراهنة.

لا يمكن لعاقل ان يصف السياسة الهجومية التي تتبعها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بأنها سياسة فاشلة، فإذ يبدو صحيحاً تماماً ان الأكلاف التي تدفعها في العراق بشرياً ومادياً مرتفعة نسبياً، وان بعض المناقشات التي تدور في أروقة صناع الرأي العام الاميركي تشبه كثيراً تلك التي شهدتها هذه الدوائر إبام المأزق نفسه في فييتنام في اواخر ستينات القرن الماضي، لكن الثابت في هذا المجال، ان الفارق بين الوضعين يتعلق اولاً واخيراً بالمستقبل السياسي لمقاومة اميركا في الحالين. فبين مستقبل ناهض وصاعد لحركات اليسار في العالم اجمع، رفد المقاومة الفييتنامية بما لا غنى عنه من حلقات تضامن غربية مع الفيتكونغ، والمقاومة العراقية ثمة فارق كبير وهائل. فالأخيرة مقاومة قادرة على التخريب لكنها فاقدة لشرعيتها السياسية. والحال، فإنها تتخبط في السياسة والبرنامج خبط عشواء، بما يجعل مجرد التفكير في تقبل انتصارها مستحيلاً. هذه مقاومة لا افق سياسياً لها وهي تالياً لا تعد الذين تقاوم باسمهم بأي مستقبل. لن يكون المواطن العراقي او الأردني متردداً في الاختيار بين دولة يقودها ابو مصعب الزرقاوي او اخرى يقودها الملك عبدالله.

هذا الاستطراد العراقي يبدو لا غنى عنه لاستقامة المناقشة وتحديد موازين القوى بين الطرفين المتصارعين. وعليه فإن العرض السوري السخي لا يعود سخياً حين ندقق جيداً في موازين القوى الراهنة. اكثر من ذلك يبدو العرض السوري مرشحاً لأن يعيد لسوريا دوراً رفضته الولايات المتحدة رفضاً باتا يوم كانت سوريا لا تزال تملك من اوراق القوة ما يؤهلها لعرضه بقليل من الطمأنينة. فحين تقترح سوريا المساعدة في نزع سلاح "حزب الله" اللبناني، والمساهمة الفاعلة في استقرار العراق، فإن ذلك يعني ان الشرايين التي تغذى منها النظام السوري طوال ما يزيد على ثلاثة عقود مضت عادت إلى ضخ الدم المستعار إلى قلب النظام المتهالك. مثل هذا الافتراض شهد رواجاً كبيراً في اوساط اللبنانيين بعد صدور القرار الدولي 1559، وصرح بذلك جهاراً السيد عمر كرامي بعيد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير اثناء تولي الأول رئاسة الحكومة اللبنانية. حين اعتبر ان سلاح "حزب الله" لا يمكن نزعه بعد خروج الجيش السوري من لبنان. رغم وضوح العرض وعيانيته وعلانيته، إلا ان الإدارة الاميركية رفضت البحث فيه او التعامل معه على اي نحو من الانحاء. وكان ما كان في لبنان بعد 14 شباط.

على المستوى الفلسطيني ايضاً أوحت دمشق مرات متكررة ان بامكانها التغذي من هذا الشريان الضيق. لكن ما حدث في الأيام الأخيرة في لبنان، حين وضع موضوع السلاح الفلسطيني على بساط البحث الأمني والسياسي في لبنان، اظهر ان المنظمات الفلسطينية الموالية لسوريا قد فقدت كل شرعية سياسية تمكنها من التلاعب بالأمن اللبناني بوصفه مقدمة لدور سياسي ما على المستوى الفلسطيني. إذ سرعان ما اعلنت السلطة الفلسطينية بلسان رئيسها محمود عباس تنصلها من كل تخريب فلسطيني لأمن لبنان الهش.
يبقى ان سوريا البعثية لها دالة ايديولوجية على بعض المقاومة العراقية، وهذا امر يجب اخذه في الاعتبار. لكن التكرار العراقي المتواتر حول ضرورة اجتثاث البعث فكراً وحزباً وعقيدة من العراق مستقبلاً يجعل مثل هذا الدور فاقداً لشرعيته السياسية ايضاً وايضاً.

يمكن القول ان شرايين الحياة التي تمد النظام السوري بالدم المستعار اصبحت ضيقة وتكاد تخنقه. وتكاد تكون المرة الأولى في تاريخ هذا النظام التي يملك فيها خصوم الأذرع السورية التي تدير ادوارها الخارجية كل السياسة إلى صفهم فيما لم يعد يمتلك مناصرو السياسة السورية غير الأمن يستطيعون العبث فيه. وفي هذا ما يحول سوريا إلى دولة بلا افق. وانبوب المصل الوحيد الذي يمد النظام السوري بأسباب الحياة اليوم على المستوى السياسي، يتأتى اولاً واخيراً من شراسة الهجمة الاميركية، ومن خوف مقيم لدى قادة المنطقة وشعوبها من تكرار النموذج العراقي في سوريا ايضاً. والحق ان الخوف من تكرار النموذج العراقي لا يمكن إلا ان يكون خوفاً عربياً - اسلامياً اولا واخيراً. فلا اظن احداً يحسب ان العراقيين اقل خوفاً على مستقبلهم بسبب هذه الفوضى من الاميركيين. قد تنسحب اميركا من العراق، لكن مستقبل العراق يبدو في احسن احواله قاتماً ومرعباً. وبصرف النظر عن حجج باتريك سيل الأهلية والتربوية، من ان العراق غير مهدد بالحرب الأهلية إذا ما انسحبت الجيوش الأميركية منه، إلا ان ما يمكن ان يحصل حقاً ليس أقل هولاً من أي حرب اهلية.

قبل نهاية هذا الشهر سيقدم القاضي الالماني المكلف بالتحقيق في جريمة اغتيال الحريري ديتليف ميليس تقريره إلى الأمين العام للأمم المتحدة. لقد اصبح واضحاً منذ الآن ان النظام السوري واقع في قفص الاتهام. ستخرج اصوات كثيرة ترفض الهيمنة الاميركية والهجوم الاستعماري الجديد في لبنان وفي سوريا وفي غير مكان من العالم العربي. لكن سوريا بعد تقرير ميليس لن تعود ابداً سوريا التي كانت قبله. خسرت هذه الإدارة قدرتها على تنفيذ سياسة قطع الطرق التي حققت لها في ما مضى نوعاً من الازدواجية في الشرعية على المستويات الثلاث: صلة القرابة بين البعثين في سوريا والعراق، وصلات الجغرافيا والاتصال الأهلي مع لبنان, وصلة العروبة بوصف دمشق قلبها النابض مع فلسطين. والحق ان النظام الذي استقوى على جيرانه في ما مضى لم يعد في طور من يستطيع ان يفاوض عنهم مرة أخرى. هذا ما اثبتته رسالة الرئيس محمود عباس إلى الرئيس السنيورة الذي اثبت بدوره ان لبنان لم يعد تحت الوصاية.

قد يشهد لبنان مزيداً من التصعيد الأمني في وتيرة الاغتيالات والتفجيرات، لكن ما يميز هذه التفجيرات انها اقل من تفجيرات الزرقاوي اعلاناً عن اهدافها وتطلعاتها. وفي غياب البعد السياسي الواضح لأي عمل عنف يصبح العنف اشبه ما يكون بالزلازل وحوادث السير التي لا راد لها، ولا تقتضي من المرء ان يغير موقفه او يبدل .

مصادر
إيلاف (المملكة المتحدة)