قال عدد من المستشرقين، لم يكونوا بحال من الأحوال «جواسيس»، إن مشكلة العرب الأولى عدم إنشائهم حيّزاً للسياسة خارج نظام القرابة وروابط الدين والمذهب، وعدم تأسيسهم شرعية سياسية مستقلة عن الشرعية الدموية والدينية أو المذهبية. وحقيقة كهذه لا تبدو حقيقية كما تبدو اليوم، مع ابتداء المبادرة العربية حيال العراق. ذاك أن الجامعة العربية لم تستجب الرغبات الأميركية والغربية الا بعدما أصبح العنصر الإيراني (الشيعي) مستفحلاً، فيما الجامعة لم تُعرف بأي تعاطف ملحوظ مع ضحايا العمليات الارهابية المتلاحقة يمنحها صدقية التدخل في الشأن العراقي. وفي هذا كانت مشدودة الى رغبتين ضمنيتين:

الأولى، أن لا تنجح تجربة التحول عن الهيمنة السنية التي بلغت ذروتها مع عهد صدام حسين الدموي. صحيح ان الرغبة «العربية» لا تقترع لعودة صدام، ولا لانبعاث صدامية أخرى بالضرورة، الا ان انكسار الهيمنة السنية يبقى يؤرّقها بدرجة أكبر.

أما الثانية، فألا تستطيع الولايات المتحدة بناء وضع عراقي جديد يخالف البنيان التقليدي للسلطات والنظم العربية. وقد لا تذهب الرغبة «العربية» الى تمنّي الفشل الأميركي في العراق، بفعل تداعيات فشل كهذا على منظومة الوضع الرسمي العربي بمجمله، الا انها لا تتمنى النجاح في المقابل. هكذا بدا الحل النموذجي (الى أن تدخّل العنصر الإيراني بحدة وإلحاح) ترك العراق، ومعه الولايات المتحدة، في مستنقع دموي واسع وعميق غير انه، في الوقت نفسه، موضعي ومعزول.

في المقابل، تتبع السلطة العراقية «استراتيجية» لا يخفى أن السياسي فيها قناع للطائفي وتمويه عليه. فيتصاحب، في «الاستراتيجية» هذه، نفي عصبي لأي اتهام يوجه الى الدور الإيراني في الوسط والجنوب، ونفي عُصابي لوجود أية مشكلة في العراق، بين طوائفه وجماعاته، تستدعي العلاج. والحال ان المشكلة العراقية بدأت تفيض عن حدودها الوطنية فبتنا نسمع، مثلاً لا حصراً، بنائبين شيعيين كويتيين يطالبان بحماية مسجد شيعي تعرض للهجوم.

والمنطق «العربي» الواحد في التكتم على المشكلة الفعلية يجد أمثلته الكثيرة في دعوات طرفيه المتناحرين. فإذا قالت «النظرية» السنية بأن مشكلة العراق، البادئة من صفر، هي الاحتلال، وانه إذا اختفى الاحتلال اختفت المشكلة، ذهبت «النظرية» الشيعية الى ان المشكلة غير المسبوقة هي الارهاب، فمتى استؤصل الارهاب استؤصلت المشكلة. واذا طالبت «النظرية» السنية بمصالحة وطنية تقفز فوق تاريخ الحكم البعثي كأنه لم يكن، طالبت «النظرية» الشيعية بطي صفحة المصالحة هذه نظراً الى انعدام موجبها أصلاً ماضيةً، في الوقت نفسه في «اجتثاث البعث» من غير تمييز! واذا ركزت «النظرية» الأولى على «عروبة العراق»، فلم تتحمل هويات أخرى يضج بها البلد المتعدد، ركز أصحاب الهويات الأخرى على تأويلات للفيديرالية يُشك معها بوجود رغبة عميقة في إبقاء العراق موحداً. واذا قالت «النظرية» السنية إن «المقاومة» داخلية المنشأ، تتصل بالوجود الاحتلالي أساساً، متجاهلةً معسكرات التدريب في الجوار والتسلل منه، أكدت «النظرية» الشيعية ان «الارهاب» خارجي المنشأ أصلاً وأساساً، متجاهلةً الحاجة الى المبالغة في الارهاب الخارجي تغطيةً على الفشل.

ويجد كل من الطرفين جزءاً من لغة سياسية حديثة يغطي بها، ويموّه، السيناريو الطائفي. فتبعاً لمتوسط الوعي السني، العراقي والعربي، يستدعي الاحتلال مقاومة، وهناك حق للشعوب في تقرير مصيرها. وتبعاً لمتوسط الوعي الشيعي، أقله العراقي، لا بد من الاندراج في سوية ديموقراطية وعصرية نتميز بها عن جوار استبدادي.

ان الطرفين يتواطآن إذ يتجنبان مواجهة الحقيقة الأم في الوضع العراقي، وأوضاع عربية كثيرة مشابهة، وهي موقع السياسة حيال الدين والدم، وضرورة استخلاص الأولى من الاثنين الأخيرين شرطاً لكي ينشأ «شعب» وينهض «وطن». وقد زاد البؤس بؤساً ان الادارة الأميركية الحالية حين أدلت بدلوها فشنت الحرب، كانت تنحاز عملياً، بخفة مدهشة، لهذا التواطؤ «الحداثي» على الحقائق. فهي أيضاً تصرفت كأن الشعوب لا تملك تواريخ خاصة بها، أو ان تلك التواريخ تخلو من المنازعات الغنية في دلالاتها الثقافية والاجتماعية. ذاك ان العراقيين كلهم انما يريدون الديموقراطية والتخلص من الاستبداد، كما قيل. أبشر بطول سلامة...

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)