نجح فؤاد السنيورة، خلال توليه حقيبة المال في حكومات المغدور رفيق الحريري، ان يكون الحال «الشاذة» في العمل الوزاري في لبنان، عندما كان يرزح تحت ما اسماه «نظام الوصاية والنظام الأمني المشترك»، اي في مرحلة الوجود العسكري السوري وتولي الاجهزة الامنية المشتركة توجيه العمل السياسي. نجح في تحييد آلية عمل وزارته، معتمدا على متابعته المباشرة للملفات وايكال الموقع الملائم للشخص الملائم. وكان السنيورة الوزير الوحيد الذي يقضي معظم سهراته في مكتبه مع كبار الموظفين في دراسة الملفات المالية المعقدة والمتشعبة، ويعطي القدوة في العمل والدأب. ويقول عارفوه انه كان يضطلع على التفاصيل ويتدخل فيها. كما استندت قراراته الى الدرس العلمي للقوانين التي تحكم هذه الملفات، مع الاخذ في الاعتبار للمعطيات الداخلية وتأثيرات التطورات الدولية فيها.

وإن كان اللبنانيون لا يذكرون من رصيد السنيورة في وزارة المال الا زيادة الضرائب والرسوم، فذلك لا يعني ان الاصلاح المالي الذي اقترحه كان فاشلاً، وانما الذي أفشل هذا الاصلاح التدخلات من اركان الدولة الامنية والمستفدين من واقع الحال. كما ان القرار النهائي لم يكن عند وزير المال وانما عند رئيس الحكومة الذي فضل في كل الاوقات عدم التصادم المباشر مع معارضي هذه الاصلاحات. وإذا كان السنيورة، حتى شهور خلت، يُعتبر ركنا اساسيا في ماكينة رفيق الحريري وليس قطبا سياسيا، فان الرجل لم يكن يسعى الى ان يكون اكثر من ذلك، ما دامت قناعاته حاسمة في اتجاه ان على المسؤول الاول ان يقرر، وعلى الآخرين ان يساعدوه في اتخاذ القرار الذي يلزم الجميع.

لقد اختير السنيورة لتولي رئاسة الحكومة، وبعد الانتخابات البرلمانية التي افرزت غالبية جديدة قوامها «تيار المستقبل» (تيار الحريري) الذي ينتمي اليه، ليكون بمثابة حل لمشكلة، وعلى ان تكون حكومته لتصريف الاعمال في انتظار صدور التقرير الدولي في جريمة اغتيال الحريري. واظهر السنيورة، خلال شهور قليلة على رأس الحكومة، انه ايضا حالة «شاذة» بين السياسيين اللبنانيين، نظرا الى ما ابداه من قدرة كبيرة على التعامل مع الملفات الكثيرة والمعقدة، وان يتعامل معها من موقع رجل الدولة المهتم بارساء قواعد سلوك وسياسة تعيد الى المؤسسات دورها الحقيقي، بعدما انتهت مرحلة حكمتها التسويات الجزئية والمنفعية على حساب المصلحة العامة.

حرص السنيورة، منذ اليوم الاول لنيل حكومته الثقة، على التمسك بصلاحيات منصبه من دون تشنج، ومن دون سعي الى قضم اطراف صلاحيات الآخرين، ومن دون اي استغلال للموجة الشعبية التي حملت الغالبية الى الحكم. لقد اعتبر ان اي عمل حكومي لا يستقيم من دون تفاهم مع رئيس الجمهورية. وهو يتفاهم معه على الملفات المطروحة، رغم رأيه في الدور الذي لعبه الرئيس اميل لحود ورغم ان القضاء يعتقل اركانا اساسيين للاخير للاشتباه بهم في اغتيال الحريري. اي ان السنيورة وضع فاصلاً بين رغباته الشخصية وبين عمل المؤسسات. وما دام لحود على رأس الدولة، سيبقى يتعامل معه على هذا الاساس، من دون ان يجعل الاتهامات ومطالب الاستقالة تطغى على ضرورة استمرار الدولة.

وأنهى السنيورة تلك الممارسة التي عرفت بإسم التوافق بين الترويكا الرئاسية. فهو يمتنع عن بحث اي عمل حكومي مع رئيس مجلس النواب، انطلاقا من مبدأ فصل السلطات. فهو اعلن ان السلطة التنفيذية تقوم بمهماتها بحسب الدستور من دون تدخل من اي مصدر آخر، وأن على السلطة الاشتراعية ان تحاسبها في المجلس النيابي وليس التدخل بصلب عملها وقراراتها. واذا كان سياسيون لبنانيون، منهم حلفاء قريبون، يأخذون على السنيورة التفرد في القرارات، فان رده عليهم ان النظام السياسي في لبنان يفصل بين السلطات والمسؤوليات، ولا ينبغي الاستمرار في الخلط بينها، كما فُرض ذلك في المرحلة السابقة.

وفي معالجته لمسألة السلاح الفلسطيني الذي كان من الاسباب الرئيسية لاندلاع الحرب الاهلية، والتي بدورها ساعدت على كل اشكال التدخل في لبنان، خصوصا من سورية، اعاد السنيورة الاعتبار الى بديهية، وهي ان الدولة هي المسؤول الوحيد عن أمن جميع من في لبنان، وان الوصول الى هذا الهدف لا يتم الا بالحوار. وذلك، مع إعادة التأكيد للموقف الداعم لحق الفلسطينيين في وطنهم وحقهم الانساني في لبنان. لقد أخرج هذا الموضوع من التجاذبات والاستغلال السياسيين ليضعه في اطار عمل الدولة وليس الاحزاب والتنظيمات والافراد.

يسعى السنيورة الى ان يعيد للدولة ما يعود اليها، بعدما جرى التخلي عن ادوارها لحساب مصالحات لم تنجح واغراءات لم تجد، وإلى ان يعيد للمؤسسات ما يعود اليها، بعدما تخلى السياسيون عن ادوارها لحسابات فئوية.

والأمل ان يتمكن السنيورة من جعل مواقفه هذه نقطة جذب لمزيد من الراغبين باستعادة السيادة الفعلية والحرية الصحيحة. فهو يستحق كل الدعم في مشروعه لجعل الدولة اللبنانية تقف على اقدامها.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)