السلوك السياسي في البلدين يتحكم بالقرارات الاقتصادية
نشرت مجلة "الاقتصاد والأعمال" حديثاً لنائب رئيس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية الدكتور عبد الله الدردري قال فيه عن العلاقات الاقتصادية والتجارية بين سوريا ولبنان: "ان ما يؤذي لبنان يؤذي سوريا وان منعة الاقتصاد اللبناني هي قوة ومنعة للاقتصاد السوري والعكس صحيح ايضاً". واعترف بان العلاقات الاقتصادية بين البلدين "لم تصل الى المستوى المطلوب، وان حجم التبادل التجاري والاستثماري كان اقل مما ينتظر"، وذكر ان "الاخوة اللبنانيين جاؤوا الينا هذه السنة وطلبوا اعادة التوازن الى العلاقات والاتفاقات الاقتصادية الثنائية وبانهاء ما سموه الغبن على لبنان. وقد تعاملنا بكل ايجابية مع الطلب فتبين لهم ان سوريا هي التي كانت مغبونة (...) فالشاحنات اللبنانية كانت تحصل على مزايا لا تحصل عليها الشاحنات السورية. وعندما طلبنا من الاخوة اللبنانيين ان يقدموا لنا مراجعتهم للاتفاقات الثنائية، لم يردوا علينا حتى اليوم، ونحن نطالب بمراجعة هذه الاتفاقات".
وختم بالقول: "يجب ان ندرك امراً اساسياً ان العلاقات الاقتصادية الثنائية لن تعود كما كانت عليه سابقاً لأن قواعد هذه العلاقات قد تغيرت اليوم. نحن لدينا الآن نظام مصرفي ولن يضطر السوريون للتوجه الى لبنان للقيام بعملياتهم المصرفية. ولدينا حرية تجارة، فلن يذهب السوريون لشراء السلع من لبنان لأنها متوفرة عندنا، ولدينا الآن شركات تأمين. ونحن لا نمانع بل نشجع تطوير هذه العلاقات ولكن عندما يكون اللبنانيون مستعدين لذلك. ونحن لدينا الان مشاريع استثمارية، بمليارات الدولارات ونبحث عن قوة عمل سورية لتشغيلها. لذلك، فلا حاجة لقوة العمل السورية لأن تذهب الى لبنان...".
هذا الكلام للوزير السوري يذكر بموقف مسؤولين سوريين من لبنان خلال السنوات الاولى من الاستقلال وذلك عندما طالب حميد فرنجيه بعلاقات ديبلوماسية بين لبنان وسوريا متأثراً بغضبة التجار والصناعيين اللبنانيين من سوء المعاملة السورية يومئذ خصوصاً انها اتخذت قراراً بانشاء مرفأ في اللاذقية بعدما كان سبيلها الى البحار ومنها مرفأ بيروت ورأت الهيئات الاقتصادية اللبنانية بدءاً من غرفة التجارة التي كان على رأسها كمال جبر، وفي ادارتها عبد الوهاب الرفاعي ان انشاء مرفأ اللاذقية يزاحم مرفأ بيروت ويجوّف الكثير من موارده فضلاً عن ان رئيس وزراء سوريا يومئذ خالد العظم لم يكن يتردد في القول: "سنمشي في الانفصال الجمركي مع لبنان كلما اتيحت الفرصة" وزاد من وتيرة التحدي للبنان حين قال: "اما الوحدة الكاملة مع لبنان او الانفصال، ويتعين ان تكون لنا مع لبنان سياسة مشتركة وموحدة ليس في التعرفة الجمركية فقط، بل كذلك في الضرائب، وخططنا يجب ان تكون خاضعة لتشاور فيما بيننا وبخاصة نظام التصدير وحماية الصناعات المحلية". ورسم خالد العظم خطاً سوريا واحداً في هذا السياق وهو: "اما ان يدخل التجار والصناعيون والمزارعون في اتحاد اقتصادي او نتخذ قراراً بالانفصال الكامل لأن الوضع الذي نحن فيه الآن، لا يمكن الا ان يزيد الأمر سوءاً".
ومنذ انعقاد الاجتماع في شتوره (فندق مسابكي) بين وزير المال اللبناني حسين العويني ووزير المال السوري حسن جباره عام 1950 والحكومة السورية ترفض اي اجتماع ثنائي. وعندما جاء وزير المال السوري الى بيروت ابلغ الحكومة اللبنانية ما يشبه الانذار الاخير: "اما وحدة اقتصادية شاملة مع سوريا، او انفصال تام يستتبع الغاء المجلس الاعلى للمصالح المشتركة وتصفية هذه المصالح. وزيادة في الضغط على لبنان صدر عن الحكومة السورية قرار بعدم تداول الاوراق النقدية السورية مع مهلة لردها الى بنك سوريا ولبنان، ومنع دخول اي سلعة لبنانية الى الاراضي السورية ولو بطريق الترانزيت لفرض حصار شبه كامل عليه. وقد ردت الحكومة اللبنانية برئاسة رياض الصلح على هذه الاجراءات بتوقيع عقود تجارية مع بلدان خارجية وانشأت منطقة حرة في طرابلس للاتصال مع الخارج، والغت الرسوم المفروضة على القمح والألبان والمواد اللازمة للاعاشة ودعت قائد الجيش الزعيم فؤاد شهاب لاتخاذ التدابير الضرورية لحماية الحدود من كل اعتداء.
وهكذا يتبين ان لا شيء تغير في العلاقات بين لبنان وسوريا منذ استقلال البلدين الى اليوم اذ ان السلوك السياسي كان هو الذي يتحكم بالسلوك الاقتصادي وبالقرارات ولا يزال، كما ان السلوك الاقتصادي كان يتحكم بالسلوك السياسي وبالقرارات.
والواقع ان لبنان عندما تأثر المناخ السياسي فيه بالبلبلة التي كانت تسود العالم العربي حيال ما يطبخ من مشاريع سياسية في المنطقة ومنها مشروع الهلال الخصيب، جعل النائب حميد فرنجيه يقف خطيباً في جلسة 13 كانون الثاني 1950 ليقول: "ان لبنان لن يبقى على حياده تجاه الدول العربية، فيما اذا تهدد استقلاله، وان مصلحة العرب مفضلة عندنا على مصالح سواهم ايا كانت، اما اذا اصطدمت مصلحتهم بنا، فنؤثر عندئذ مصلحتنا على الجميع". وتابع بقول: "ان سوريا لا تسير على خطة مثلى بحق لبنان، خصوصاً وهي في حالة ضعف وعدم استقرار ولا أجد مناصاً من تمثيل ديبلوماسي بين الحكومتين اللبنانية والسورية للوقوف على الحالة الحقيقية عند جيراننا في هذه الايام الصعبة".
وكانت تلك أول دعوة في تاريخ لبنان الى تبادل ديبلوماسي بين بيروت ودمشق، وهي الدعوة التي تتكرر اليوم وفي ظروف مشابهة بالنسبة الى الوضع السائد في سوريا وفي لبنان وخصوصاً بالنسبة الى نظرة الحكم السوري الى طبيعة العلاقات بين البلدين وكيف ينبغي ان تكون سياسياً واقتصادياً وعدم الفصل بينهما لأن احداها تؤثر على الاخرى بدليل ان ازمة الشاحنات على الحدود كانت وليدة التأزم السياسي، ويخشى ان تؤدي نتائج التحقيقات الدولية التي سيتضمنها تقرير ميليس، اياً تكن هذه النتائج، الى مزيد من التأزم في العلاقات بين البلدين.
وفي وقت يدخل لبنان في دائرة المساعدة الدولية في كل المجالات السياسية والامنية والاقتصادية، تدخل سوريا في دائرة العزلة الدولية الى حد اخذ يضيق الخناق على النظام السوري، بحيث ان المجتمع الدولي اخذ يدرس طريقة التعاطي مع هذا النظام في ضوء تقرير ميليس، وهو ما يجعل دمشق ترفع من درجة قلقها وتوجسها وحملاتها على مسؤولين وسياسيين لبنانيين ازاء توظيف دم الحريري كما يقول مسؤولون سوريون لمآرب سياسية، ووجود منحى سياسي لنتائج التحقيقات الدولية وامكان ان توظف في حملة الضغوط الاميركية على سوريا حتى ولو ادى ذلك الى اشعال فتنة في لبنان وسوريا.
ولا تستبعد اوساط سياسية مراقبة ازدياد الضغوط السياسية والاقتصادية على سوريا بعد صدور تقرير ميليس، واتهام مسؤولون اميركيون، القيادة السورية بمحاولات الاستمرار في زعزعة الاستقرار في دول مجاورة مثل لبنان والعراق وفلسطين، الامر الذي يجعل هؤلاء المسؤولين يرون ان الوقت حان لمحاسبة هذه القيادة على افعال ارتكبتها وتستمر في ارتكابها.
وتضيف الاوساط نفسها ان لا راحة للبنان ما دامت سوريا غير مرتاحة لسلوك بعض المسؤولين فيه، وان لبنان قد لا يشعر بالارتياح والطمأنينة الا عندما يكون فيه حكم ترتاح اليه سوريا التي اعتادت منذ عهد الاستقلال ان يحكم لبنان من سوريا او حتى من لبنان، كما حصل على مدى السنوات الثلاثين الاخيرة. وهو وضع يصح فيه القول المأثور: اذا كان جارك بخير فأنت بخير، أما اذا لم يكن جارك بخير فلن تكون انت أيضاً بخير، وهي الحالة السائدة الآن بين البلدين الجارين... وهي حالة لن تتغير ما لم يتغير سلوك احدهما حيال الآخر ليصبح أخويا فعلاً لا قولاً.

مصادر
النهار (لبنان)