قيل إنه قال في حديث لاذاعة لبنانية قبل الاعلان عن انتحاره “إن هذا هو آخر تصريح لي”. الكثيرون أولوا هذا القول بأن الرجل كان قد عقد العزم على إنهاء حياته بنفسه، وأنه أراد إبلاغ هذه الرسالة للرأي العام، أو على الأقل لمن يعنيهم الأمر، خاصة أنه طلب من المذيعة التي أجرت معه الحديث أن تعمم ما قاله لوسائل الاعلام الأخرى. لكني استمعت مساء أمس للناشط السوري ميشيل كيلو رئيس مركز “حريات” وهو يقول إن هذا يظل واحداً من تفسيرين، أما التفسير الثاني لعبارة غازي كنعان للمذيعة اللبنانية التي استفسرت منه عن تقارير صحافية أشارت الى اسمه في أمور تتصل بالشأن اللبناني، فهو ان هذه هي المرة الأخيرة التي سوف “أصرح” بشيء حولها لوسائل الاعلام، وأنه يرجو من المذيعة تعميم قوله هذا لكي لا يسأله أحد ثانية حول ذلك الموضوع.

حياة غازي كنعان الذي يوصف بأنه أبرز رجل أمن في سوريا انتهت. لا أعرف إلى إي مقدار سيكون مهماً معرفة ما إذا كان هو نفسه من أنهى هذه الحياة، أم أن أحداً آخر في النظام السوري أو خارجه له مصلحة في ذلك قد تولى المهمة. لن نقول إن رحيله يعني نهاية مرحلة كان يمثلها، ذلك بأن هذه المرحلة كانت قد انتهت فعلياً منذ أن خرج السوريون من لبنان بعيد مقتل الرئيس رفيق الحريري، وما عشناه بعد ذلك وما نعيشه الآن ليس سوى تداعيات تلك النهاية. صحيح ان كنعان لم يعد مسؤولاً للاستخبارات السورية في لبنان حتى قبل خروج سوريا منه، لكن خيوط تلك الاستخبارات ظلت في يديه بعدما أصبح وزيراً للداخلية بالذات، وليس لأي وزارة أخرى. وكان كنعان على رأس هذه الاستخبارات لمدة عقدين من الزمن على الأقل، وأمن له هذا الموقع الحساس ليس فقط الإمساك بخفايا وخبايا الوضع الأمني والسياسي في لبنان من زواياه المختلفة، لأنه من الناحية الفعلية كان أحد أبرز الرجال الذين يديرون هذا الوضع بالنظر الى حجم النفوذ السوري القوي في لبنان عسكرياً وأمنياً وسياسياً، وإنما أيضاً بالنظر الى حساسية الساحة اللبنانية فإنه كان على اطلاع على ملفات ووقائع واتصالات عربية واقليمية ودولية لا تتصل بلبنان وحده، وانما بالوضع في المنطقة برمتها. وهذا من شأنه أن يطرح سؤالاً عما إذا كان هذا الرحيل المفاجىء لغازي كنعان، منتحراً أو منحوراً، سيؤدي الى غياب الشاهد الرئيسي، أو فلنقل أحد أبرز الشهود على مرحلة بكاملها في سوريا ولبنان، على الأقل فيما يتصل بالعلاقة الشائكة المعقدة بين هذين البلدين الجارين، وهي علاقة شهدت في العقدين، لا بل العقود الثلاثة الماضية، منعطفات مصيرية وتداخلاً وتشابكاً، بحيث لم يعد هناك أمر يتم في لبنان وسوريا بعيداً عنه، بدءاً من “صناعة” رئيس الجمهورية واختيار رؤساء الحكومات والبرلمان وتعيين الوزراء والمسؤولين الأمنيين وقادة الجيش وحتى “انتخاب” أعضاء مجلس النواب. وإذا ظهر أن هذا التشخيص صحيح، فهل في “تغييب” الشاهد الرئيسي رغبة في إخفاء أدلة ووقائع كثيرة ربما لم يكن أحد غير هذا الرجل على اطلاع عليها أو إلمام بتفاصيلها.

ليس عبثاً أو مصادفة أن أول ردود الفعل حول “انتحار” غازي كنعان ذهبت للربط بينه وبين التقرير المرتقب للمحقق الدولي “ميليس” وحول ملابسات اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري، والتي وجهت أصابع الاتهام فيه، صراحة أو مواربة الى سوريا، وهو أمر يعني غازي كنعان بدرجة أساسية كونه مسؤول الملف اللبناني فترة طويلة، وكونه وزيراً للداخلية، فهل اختار الرجل الرحيل تفادياً لإذلال منتظر حاملاً سره معه، أم أن هناك من رأى ضرورة رحيله تفادياً للأسوأ؟ يمكن أن يظل الأمر لغزاً.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)