خدام يعود إلى دمشق بعد وساطة شوكت في باريس

انتحر اللواء غازي كنعان امس على طريقة العقيد عبدالكريم الجندي الذي أنهى، كما قيل، برصاصة في الرأس مساء الاول من آذار 1969 حياته في حمأة صراع على السلطة بين حافظ الاسد وصلاح جديد، في حزب البعث وفي الدولة. كان عبد الكريم الجندي سنتذاك يشغل ثلاثة مناصب لم يسبقه اليها احد في الاستخبارات السورية، عضواً في القيادة القطرية للحزب ومدير مكتب الامن القومي ومدير المخابرات العامة. انتحر بعد مكالمة هاتفية مع رئيس شعبة المخابرات العسكرية علي ظاظا اثر خلاف حاد بينه وبين الاسد في مؤتمر الحزب في يعفور آخر شباط. كان العقيد المتغطرس قد انحاز الى جديد.
بدوره غازي كنعان انهى حياته برصاصة في الرأس بعد مكالمة هاتفية مع الزميلة "وردة" في "صوت لبنان" في حمأة مواجهة بين سوريا والمجتمع الدولي بازاء التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري. انه الرجل الاكثر معرفة باسرار سوريا في لبنان، واسرار لبنان في سوريا على امتداد 30 عاماً من وجود سوريا في هذا البلد. فذهبت معه هذه الاسرار. وخلافا لرئيس الوزراء السابق محمود الزعبي الذي انتحر لاسباب اخلاقية تتصل باتهامه بالفساد، كان انتحار كنعان سياسيا يتصل بمصير النظام برمته.
وكانت امس المرة الاولى التي سمع اللبنانيون صوته، وهو الذي تحاشى المصورون تصويره من دون اذنه. الا انها المرة التي خاطب فيها مسؤول سوري كبير من تلقائه وسيلة اعلامية لبنانية طالباً منها تعميم تصريحه من دون العودة الى وسائل الاعلام الرسمية السورية. وبسبب ذلك فان غموضاً كبيراً يلف الظروف التي احاطت بانتحار رجل ملك اكثر من امتياز: صلته العائلية بالرئيس السوري بعد زواج نجله من ابنة جميل عم الرئيس بشار الاسد، امساكه الى الملف اللبناني بالملفات الاكثر تعقيداً كملف الامن الداخلي السوري والملف التركي والملف الكردي في شمال البلاد، وكان قائد الحملة على عصيان القامشلي قبل سنتين.
لكن غازي كنعان حكم لبنان واستطاع ان يكون عبد الحميد السراج وعبد الحميد غالب في وقت واحد. فالرجلان حكما لبنان في آن معا من موقعين متباعدين ما بين 1957 و1961: الاول من مكتبه في الشعبة الثانية في دمشق، والآخر من سفارة مصر في بيروت.
ثاني رئيس لجهاز الامن والاستطلاع في الجيش السوري في لبنان. دخل لبنان للمرة الاولى من بوابة عكار في 31 ايار 1976 على رأس وحدات مدرعة سورية وكان برتبة نقيب في سلاح المدفعية لفك الحصار عن بلدة القبيات. في وقت لاحق انتقل الى المخابرات رئيساً لفرع الامن في حمص، ولم يكتسب سمعته في المخابرات السورية الا عام 1980 عندما نجح في حمل "الاخوان المسلمين" في حمص على تسليم اسلحتهم فيما عمل رفعت الاسد على دك حماه وتصفيتهم.
كان قد سبقه الى المنصب في لبنان العقيد محمد غانم الذي قطف وهج الدخول العسكري السوري الى لبنان مكتفياً بدور امني لم يتحول سياسياً الا عام 1982 على ابواب الاجتياح الاسرائيلي للبنان. وبحكم علاقاته بها في عهد الرئيس الياس سركيس هضمته الطبقة السياسية الواقعة تحت النفوذ العسكري السوري تارة بحمايته اياها وطوراً بضمانه مصالحها. ابان اجتياح 1982 غادر لبنان مع قوافل الجيش السوري التي ارغمها الاسرائيليون على الانسحاب من غرب طريق الشام. مطلع عام 1983 حلّ محله المقدم غازي كنعان بعد مرحلة انتقالية قصيرة لعلي حمود معاون غانم، والذي اضحى لاحقاً معاوناً لكنعان قبل ان يخلفه رستم غزالة.
الامتحان الاول الذي واجهه كنعان كان "حرب العلمين" عام 1983 بين الحلفاء: حركة "امل" والحزب التقدمي الاشتراكي. عام 1985 في خضم مفاوضات الاتفاق الثلاثي وسلسلة الانتفاضات في حزب الكتائب قال لحزبيين قريبين منه جعل احدهم نائباً عام 1996 انه سيجعل هذا الحزب تراباً. وكما جعل محمد غانم من نفسه في سبع سنوات اسطورة سياسية وامنية اذ كان يحاور الياس سركيس وبشير الجميّل ويمثل سوريا في لجنة المتابعة العربية ويتوغل في النسيج السياسي والاجتماعي اللبناني، واضحى الضابط الذي يهابه السياسيون اللبنانيون، كذلك فعل غازي كنعان. عرّاب الطبقة السياسية منذ انتخابات 1992.
في 30 عاماً من وجوده في السلطة، حكم حافظ الاسد سوريا ولبنان معاً 25 عاماً. كان رجاله الذين اداروا لبنان ما بين 1975 و1983 عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي وناجي جميل ومحمد الخولي ورفعت الاسد، ثم خرج الثلاثة الاخيرون، فاستمر خدام والشهابي حتى عام 1998. مذذاك انتقل الملف الى يد غازي كنعان وحده. بعدما كان الرجل ينفذ في لبنان ما كان يقرره خدام والشهابي في دمشق، اصبح ينفذ من عنجر ما كان يقرره الرئيس السوري، الاب والابن. أبعد الاسد الاب خدام عن الملف اللبناني فيما ساورته شكوك في الشهابي الذي لم يعد الى دمشق الا بوساطة لدى الاسد الابن عام 2000. وازدادت أخيراً الشكوك في الرئيس السابق للاركان، فيما بذل رئيس الاستخبارات العسكرية السورية اللواء آصف شوكت الذي زار قبل اسابيع باريس جهوداً لاعادة خدام الى دمشق بعد خلاف الاخير مع الاسد في المؤتمر القطري للحزب قبل اشهر وتخليه عن مواقعه. ويتردد ان خدام سيعود الى دمشق منتصف الاسبوع المقبل.
لم يكن في وسع اي رئيس لبناني الى اي سلطة دستورية انتمى التوجه براً الى دمشق من دون المرور بكنعان، ولم يكن في وسع اي سياسي اجتياز ابواب المسؤولين السوريين دونما المرور به ايضاً. في عهد الرئيس الياس الهراوي ثم خلفه لحود حتى تشرين الثاني 2002، صنع طبقة القضاة الحلفاء والضباط الحلفاء والموظفين الكبار الحلفاء...
فالرجل عُرِف بالهدوء والنزق على السواء. كعبد الحليم خدام لم يتحمس لانتخاب لحود، ولم يحبذ اقصاء الرئيس رفيق الحريري عن اولى حكومات العهد الجديد. وفي ظل الغرور الذي اصاب العهد الجديد عام 1998، رغب لحود في اقصاء كنعان عن منصبه. بذلك اجتمع كنعان وخدام على امرين: صداقة وطيدة للحريري وعداء مضمر للحود. خرج نائب الرئيس من الملف اللبناني واضحى رئيس جهاز الامن والاستطلاع يدير لعبة سياسية لبنانية تشمل الجميع الا لحود الذي عوّل على علاقة شخصية بالرئيس بشار. وبشطبة قلم، كحال محمد غانم، أخرِج غازي كنعان من الملف اللبناني وقيل انه رقي الى مسؤولية افضل هي جهاز الامن السياسي في سوريا خلفاً للواء عدنان بدر حسن. دفع ثمن انتخابات 2000 بعدما قيل انه تواطأ والحريري على ادارة انتخابات تجعل الحريري على نحو غير مباشر يكتسح بيروت بمقاعدها كلها، فسقط الرئيس سليم الحص والنائب تمام سلام. ولم يكن كنعان، وهو بعيد من الملف اللبناني، داعماً للتمديد للحود.
كان الرجل الرئيس الفعلي للطبقة السياسية اللبنانية من رأسها هرمها. شارك خدام في صنع لوائح انتخابات 1992 و1996 وصنع لوحده لوائح انتخابات 2000. وّزر وخلع وزراء. ولعل جانباً قد يكون مخزياً في مرحلة من تاريخ ما بعد الطائف في تاريخ لبنان ان نائباً اوصله غازي كنعان الى النيابة، ولايزال ولكن في الموقع الاخر قال ذات يوم: "جزمته على رقبتنا".
بانتحاره ثمة اسرار اخرى ربما تكون على علاقة باغتيال الرئيس الراحل للحكومة حملها معه كنعان. وعلى نقيض من رستم غزالي لم يترك في صفوف حلفاء سوريا خصوماً له. عام 1994 سماه النائب السابق يحيي شمص "الحجاج بن يوسف" بعدما علم انه سيدخله السجن، وفي السنة نفسها نُسِب اليه ادخال سمير جعجع الى السجن.
نُسب اليه دائما انه كان يريد تدمير المعارضة المسيحية. وتطلع الى بكركي باستخفاف. منذ عين وزيراً للداخلية عام 2004 دخل صحراء حياته. في شباط الفائت احيل على التقاعد.
في حساب النظام في سوريا مَن يكون على هامش القرار في لبنان يكون على هامش السلطة والفاعلية في دمشق.
لكن السؤال الاكثر مدعاة للغموض هو الآتي: هل ان انتحــــار كنعان كان دفاعا عن نظام يواجه تهديدات خطيرة، ام ايذانا بتحولات خطيرة تنتظر هذا النظام؟

مصادر
النهار (لبنان)