من يتابع التقارير التي تنشرها بعض الصحافة الأجنبية عن سورية، سيلفت نظره الكم الكبير من التحليلات والتوقعات عن مصير النظام في دمشق والتي كتبها صحافيون وباحثون ومختصون غربيون بالشأن الشرق أوسطي والسوري منه تحديدا، ولا نبالغ إذا قلنا ان غالبية من هؤلاء ورغم أهمية ما كتبوه وتوقعوه، إلا أنهم بقوا بعيدين عن فهم طبيعة النظام السياسي والأمني رغم إلمامهم ومعرفتهم بنبض الشارع السوري.
التحليلات والتوقعات عن مستقبل النظام السوري فرضتها جملة من المتغيرات الدولية والاقليمية، وإذا كان ثمة اعتقاد بأن هذا الاهتمام بمستقبل سورية ونظامها الحالي مرده الى المتغيرات التي حصلت في الساحة اللبنانية منذ جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ومن ثم خروج القوات السورية من لبنان تحت الضغط، فهذا اعتقاد غير دقيق، لأن الاهتمام والأسئلة عن مستقبل نظام بشار الأسد وحزب البعث الذي يحكم سورية منذ أكثر من أربعين عاما، بدآ مع اللحظة الأولى للاحتلال الأميركي للعراق، وتكرسا بعد حال الفراق والقطيعة بين سورية والولايات المتحدة على خلفية موقف دمشق المعارض لهذه الحرب والمؤيد لنهج وخيار المقاومة, ما نقصده من ذلك أن جريمة اغتيال الحريري وتطورات الملف اللبناني السوري لم تكن سوى عامل جديد أو نتيجة للخلاف السوري الأميركي في العراق وليس أصل المشكل.

وعليه، فإن التحليلات التي انطلقت من نقطة جريمة الاغتيال بقيت بعيدة عن إدراك ما يحصل في المنطقة وبالتالي لم تتوقع حصول صفقة سياسية بين سورية والولايات المتحدة في ما لو فرضت تطورات المسألة العراقية ذلك خصوصاً وأن هدفا مثل تحقق الأمن في العراق وضمان بقاء وجود آمن للقوات الأميركية مع حكومة عراقية تؤمن المصالح السياسية والاقتصادية والنفطية لواشنطن تعتبر أكثر أولوية من لبنان.

ومن بين الكتابات اللافتة ما نشرته صحيفة «هيرالد تريبيون» في 6/10/2005. للالماني فولكر بيرتس المعروف باهتماماته بالشأن السوري والذي ألّف أكثر من كتاب عن سورية كان آخرهم (سورية في عهد بشار الأسد).

ويقول بيرتس ان نظام الرئيس بشار الاسد وصل الى مرحلته النهائية، حتى اذا تمكن من التشبث بالسلطة لأشهر او سنوات بغض النظر عما سيقوله ديتليف ميليس، المحقق الالماني في جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، في تقريره بشأن دور سورية المشتبه في تلك الجريمة.

ورغم أن الباحث الالماني ينطلق في قناعاته هذه من الموضوع العراقي كون سورية متهمة من جانب الادارة الاميركية بانها تدعم بنشاط التمرد في العراق, واغضبت صديقتها الرئيسية في اوروبا، فرنسا، إلا أنه لم يتطرق إلى إمكان حدوث متغيرات سياسية قد تفضي إلى تفاهمات أميركية - سورية أو فرنسية - سورية بشأن العديد من الملفات الاقليمية، كما أنه ينطلق من قناعاته هذه ويجزم بأن النظام شارف على نهايته وما هي إلا بضعة أشهر ويحصل التغيير، وهذا أغرب ما في الأمر، لأن مسألة تغيير النظام في سورية مسألة بالغة التعقيد ومن الصعوبة بمكان حصولها في ظل معطيات داخلية لا تنم على وجود الضعف أو التفكك أو التصارع بين أركانه، كذلك هناك تغييب في التحليل للواقع الاقليمي العربي (المصري والسعودي والإيراني والتركي) الرافض لعزل دمشق أو زعزعة الاستقرار، وهناك عدم قراءة للعامل الاسرائيلي الذي عبر أخيرا عن هواجس وقلق من غياب الاستقرار في سورية فيما لو ارتكبت الولايات المتحدة حماقة ضد نظام بشار الأسد.

كذلك يخطئ الباحث الالماني حين يقول ان نظام الاسد «خسر ثقة ودعم العديدين من ابناء الشعب السوري ونخبه»، لأن السوريين ورغم وجود «معارضة» سلبية وصامتة للكثير من السياسات الحكومية ورغم المطالبات بمزيد من الحريات الديموقراطية من قبل بعض الأحزاب والمثقفين، إلا أنهم بقوا على مسافة كبيرة من الولايات المتحدة وسياستها الشرق أوسطية وخصوصاً منها العراقية منها، وتلك المتعلقة بإدارة عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل, كما أنهم عبروا أكثر من مرة عن معارضتهم لأي تدخل خارجي في شؤون سورية الداخلية.

ومن بين السيناريوهات التي وقف عندها المحللون الغربيون على طريق شرحهم لكيفية سقوط النظام، أحدها يقول ان الاسد يمكن أن يقوم بحركة تغيير للنظام من فوق ثم يحمّل مسؤولية الاخطاء التي وقعت في السنوات الخمس السابقة لمساعديه ويحيلهم على التقاعد، ويطلق السجناء السياسيين، ويعلن عن انتخابات برلمانية في غضون سنة ومن مقتضيات هذا السيناريو حسب تلك التحليلات «أنه يتطلب قيادة قوية، لذلك من غير المرجح ان يتحقق لسوء الحظ», هنا يعكس هذا التحليل عدم فهم كبير للمشهد الداخلي السوري، فكما هو معروف أن نظام بشار الأسد قام في الفترة الأخيرة بسلسلة من التغييرات في المؤسستين الأمنية والبعثية أفضت الى وجود فريق أمني متجانس ومعروف بولائه وإخلاصه للأسد وأدت هذه التغييرات الى إبعاد بعض مراكز القوى عن هذه المؤسسات.

ومن ناحية ثانية، يفترض مثل هذا السيناريو وجود جيوب واختراقات داخل هاتين المؤسستين، لكن الوقائع وآليات العمل المتبعة تقول ان المفاصل كلها منتقاة بدقة صارمة وتخضع لمركزية شديدة وتصب جميعها في المؤسسة الرئاسية,
وتراهن بعض السيناريوهات على حركة اضطرابات داخلية طائفية واثنية نتيجة «تفاقم عزلة النظام السوري», وبالتالي، «فان الدولة السورية يمكن ان تتفكك بصورة تدريجية»!, كذلك هذا السيناريو يسقط من حساباته أن «الدولة» السورية كمؤسسة تملك القوة وحق ممارستها واستخدامها إضافة لامتلاكها وسيطرتها على الثروة ووسائل الاعلام ما زالت هي الطرف الأقوى في أي معادلة داخلية طالما عكست السنوات السابقة ضعفا شديدا في حركة المعارضة، لا بل توضح ضعفها تماما أخيراً حين عقدت بعض الأحزاب السورية مؤتمرا في العاصمة الفرنسية منذ أكثر من شهر وظهر وقتها أن حتى معارضة الخارج تفتقد الانسجام والتلاقي بشأن أهداف محددة, وهو الأمر الذي كشف عنه مسؤولون أميركيون مستبعدين رهانهم على هذه المعارضة واعتبروها أضعف وأسوأ من المعارضة العراقية خلال حكم صدام حسين رغم كل مساوئها وخلافاتها.
أما السيناريو الثالث الذي يتوقع انقلابا عسكريا «يقوده شخص من الفئات العسكرية العليا»، يبدو ايضا بعيد التحقق بسبب صرامة ودقة عمل المؤسسة الأمنية وتفرغها منذ سنوات لمتابعة الشأن الداخلي، وما يعني ذلك من خضوع الجميع مهما علت مناصبهم لنظام رقابة كامل عليهم، هذا عدا عن نقطة اشرنا إليها مسبقا وتتعلق بصعوبة وصول أي شخص الى مستويات قيادية إلا بعد التأكد من ولائه وإخلاصه الكامل للنظام ورأسه.

كذلك نسيت هذه التحليلات أن النظام في دمشق وعلى خلفية الضغوط الكبيرة يتجه يوما بعد يوما نحو مزيد من العسكرة و«الأمننة» ولمزيد من التشدد اتجاه كل ما يعكر استقراره، كذلك، صار للسوريين حساسية شديدة تجاه كل ما يصدر عن الغرب والولايات المتحدة تحديدا على خلفية ما يجري في العراق، لذلك يبدون اليوم أكثر حرصا على الاستقرار أكثر من أي وقت مضى.

مصادر
الرأي العام (الكويت)