بينما كان اللبنانيون منشغلين بمتابعة اخبار المحقق الدولي ديتليف ميليس، فاجأتهم دمشق باعلان نبأ انتحار وزير الداخلية اللواء غازي كنعان.

وربط العديد من المحللين بين موعد تقديم التقرير الى امين عام الامم المتحدة الجمعة المقبل، وتوقيت عملية الانتحار التي ظهرت على صورة خلاص نهائي من ضغوط الحملات الاعلامية المتواصلة. وحدث في مساء ذلك اليوم المشحون بالمفاجآت ان بثت قناة "سي ان ان" حديثاً للرئيس بشار الاسد أنكر فيه ضلوع اي مسؤول في النظام، في اغتيال رفيق الحريري. وهكذا ظهر حادث الانتحار كعلامة استفهام ضخمة يصعب الاجابة عليها بالمنطق الذي قدمه الكاتب البريطاني مراسل جريدة "الاندبندنت" روبرت فيسك اي المنطق الذي يقول ان الذي يعرف غازي كنعان لا يمكنه ان يصدق انه من الصنف الذي يقتل نفسه.

كان من الطبيعي ان تفتح هذه الواقعة ذاكرة السوريين على وقائع مشابهة جرت في مراحل مختلفة. وهم يتذكرون نموذجين من نماذج عمليات الانتحار المرتبطة بسمعة كبار اعضاء حزب البعث ومواقفهم العقائدية. النموذج الاول قدمه عبد الكريم الجندي، رئيس الشعبة السياسية الذي ادعى في رسالته الموجهة الى القيادة، انه انتحر بسبب يأسه من تحقيق اهداف الحزب. وسجل في رسالته قبل ان يعدم نفسه ان النزاع الحزبي الداخلي الذي شهدته سوريا بعد حركة الانفصال عن مصر، دفعه الى التخلص من حياة سياسية هزيلة.

وذكر في حينه ان خلافه مع صلاح جديد قاده الى الانتحار عقب التهديد باحالته الى المحكمة العسكرية. وخشيت قيادة الحزب في حينه من انعكاس نتائج هذه العملية على معنويات الرفاق، لذلك اصدرت بياناً قالت فيه ان عبد الكريم كان يعاني من اضطرابات نفسية.

النموذج الثاني عبّر عنه محمود الزعبي عقب اقالته من رئاسة الحكومة، واتهامه بالفساد والافساد. ومع ان النظام كان يراقب كل نشاطاته الرسمية ويحصي عليه انفاسه، الا ان انتحاره ظهر كمؤشر تهديد للمسؤولين الذين تمادوا في استغلال النفوذ.

والراهن ان هذين النموذجين لا يمكن ان يتطابقا من حيث الدوافع العقائدية والمسلكية، مع الحال التي جرى تصويرها في اذاعة "صوت لبنان" بأنها كانت تقف وراء قرار الانتحار. وعليه شكك العماد ميشال عون برواية الانتحار لأن البيان الرسمي لم يذكر اي تفاصيل عن خلفية الحادث كأن المتوفي ليس وزيراً للداخلية. لذلك استغرب الديبلوماسيون في دمشق ان تتم عملية الانتحار داخل مكتب محاط بالحرس والموظفين، وفي وقت تزحم الوزارة بالزوار. كما استغربوا ان يتولى احد الوزراء مسؤولية الدفاع عن نفسه عبر وسائل الاعلام اللبنانية. فمثل هذه المسؤولية منوطة بأجهزة الحزب التي تهاجم يومياً - عبر الصحف والاذاعة – وليد جنبلاط وسعد الحريري ومروان حماده. ثم اضافت هذا الاسبوع الى القائمة اسم رئيس الحكومة فؤاد السنيورة.

ويستدل من مراجعة نص التصريح الاخير الذي خص به غازي كنعان مذيعة "صوت لبنان" وردة الزامل، ان الصوت – كما يقول عون – قد لا يكون صوته. والسبب ان تقرير قناة "نيو تي في" عن نص شهادة كنعان امام لجنة التحقيق، كان من انتاج المخيلة ولا يمكن ان يكون من انتاج الواقع والحقيقة. ويرى رجال القانون ان رجل استخبارات في حجم غازي كنعان وخبرته، لا يعقل ان يقول للمحقق: "انا قبضت ثمن وضع القانون الانتخابي مبلغ عشرة ملايين دولار، وجميل السيد قبض عشرة ملايين ايضا". وتقول المحطة ايضاً ان رستم غزالة لم ينكر دوره في القبض وتبديد اموال بنك المدينة... الخ، ثم ينهي كنعان استجوابه باعلان براءته متسائلاً: اذا كنا مستفيدين الى هذا الحد من شريكنا الحريري، فكيف نقتله؟

الصحف الغربية في غالبيتها رفضت تصديق الرواية الرسمية، لأن ما ذكر عن عمليات الرشوة، لا يشكل اساءة بالغة الى سمعة وزير داخلية سوريا. والسبب ان رفيق الحريري موّل شراء اكثر من ثلاثمائة شقة فارهة لعدد من المسؤولين السوريين في بيروت وباريس ولندن ونيويورك ونيس وكان. كما أمر ببناء منازل فخمة للبعض الآخر في دمشق وعلى شاطىء اللاذقية. ولا تنكر الدولة السورية تبرعه يوم مول بناء "قصر الشعب" الذي زادت تكاليفه على تسعين مليون دولار. اذن، اين تكمن الاسباب التي دفعت اللواء غازي كنعان الى الانتحار باعتبار انه فضل التضحية بنفسه كي ينقذ سمعته وسمعة عائلته من الاغتيال المعنوي؟ يقول العسكريون ان طريقة الانتحار باطلاق رصاصة من المسدس في الفم، استعملها أنصار هتلر الذين رافقوه الى الملجأ في برلين. فالنساء اخترن الموت بواسطة حبوب السم. اما الرجال فقد عبروا عن ولائهم للفوهرر باطلاق رصاص المسدسات داخل أفواههم. وهي طلقات قاتلة من دون ألم لأنها تمزق الدماغ فوراً.

معارضو النظام السوري يرفضون تصديق الرواية الرسمية، ويقولون ان وزير الداخلية غازي كنعان كان آخر شاهد على مرحلة حافظ الأسد، وان وجوده لم يعد مريحاً لقادة العهد الجديد. في حين يرى المعارضون ايضاً ان كنعان انتحر لغير الاسباب التي ذكرها في تصريحه الى اذاعة "صوت لبنان"، وأن الايام المقبلة ستكشف عن عملية تطهير واسعة قد تطاول أفراد الحاشية السابقة. والى أن تظهر الحقيقة، يبقى موت غازي كنعان لغزاً محيراً للذين عرفوه عن كثب، وللذين عرفوا كيف اختاره الرئيس حافظ الاسد للقيام بمهمة صعبة في لبنان عام 1982.

في تلك المرحلة كان النظام السوري يعاني من ارتباك واضح عقب احداث حماة (شباط 1982) واجتياح لبنان (حزيران 1982). واختار حافظ الاسد الضابط غازي كنعان للقيام بمهمة محددة تتعلق بضرورة خلق مقاومة لبنانية تحرم اسرائيل السيطرة على علاقات البلدين. كما تعيد لقواته المتراجعة في وادي البقاع، بعض التواصل مع الاحزاب التي تعرضت للانقطاع عن الوحدات السورية بعد التطويق العسكري. وكان هذا الاختيار وليد امتحانات سابقة في احداث حماه، حيث لعب كنعان دوراً نشطاً في النزاع الداخلي، ونجح في تجسير علاقات بلاده مع تركيا. ثم باشر فور انتقاله الى لبنان في تكوين عناصر مقاومة صلبة دشنت سناء المحيدلي نشاطها بعملية انتحارية قادت الى ظهور مقاومة منظمة واسعة. وبقي نفوذه متغلغلا في كل شرائح المجتمع السياسي اللبناني الى ان حل مكانه نائبه رستم غزالي. وقد ميزه الرئيس بشار الاسد عندما عينه وزيراً للداخلية في احرج المراحل واكثرها توتراً. عقب الاعلان عن انتحار الوزير كنعان بسبع ساعات تقريباً، ظهر الرئيس بشار الاسد في مقابلة تلفزيونية اجرتها معه كريستيانا أمانبور وبثت مرات عدة من قناة "سي ان ان".

وواضح من سياق الحديث ان دمشق تريد استباق قرار لجنة التحقيق الدولية باعلان براءتها من تهمة قتل الحريري، لأن هذه الجريمة تعامل من قبل النظام السوري كخيانة عظمى. وكان الرئيس بشار يريد وقف الاقاويل التي نشرت في الصحف الاجنبية حول دور سوريا وتورطها في مقتل الحريري. كما يريد من جهة اخرى ايصال رسالة تطمين الى الرئيس جورج بوش، بان سوريا تخشى على امنها من نتائج الفوضى والتقسيم في العراق. ومعنى هذا انها مستعدة للتجاوب مع الوساطة التي يقوم بها الرئيس حسني مبارك. او مع طروحات التعاون والتنسيق التي ذكّرته بها امانبور في أكثر من سؤال هادف.

بقي السؤال المتعلق بنتائج التحقيق الذي سيقدمه ميليس الى أمين عام الامم المتحدة الجمعة المقبل، في انتظار مناقشته في مجلس الأمن. وقد اشار الرئيس الاسد في المقابلة، الى موافقته على تشكيل محكمة دولية تقوم بمحاكمة المتهمين في بلد محايد مثل جنيف او قبرص او فيينا، أي على غرار محكمة "لاهاي" التي تحاكم الرئيس اليوغوسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش. وقد التقى في تصوره لخطورة العملية، مع قرار مجلس الامن ونص المادة السابعة التي تعتبر ان قتل الحريري ورفاقه، من الاعمال الارهابية. ولكن الاسد حذر من محاولات تسييس الجريمة كأنه بذلك يستبق التحقيق ويعلن ان زج اسم بلاده في هذه العملية يبقى عملا مرفوضاً. ولقد رأت اللجنة في هذا الموقف الاستباقي اعتراضاً على حرية البحث عن الحقيقة في الفضاء السوري. ومعنى هذا ان التقرير سيواجه بانقسام حول مصادر المعلومات وطريقة فرزها وتأثيرها على مجرى التحقيق. ويرى بعض اعضاء لجنة التحقيق ان ميليس قد يطلب التأجيل لاستكمال مهمته، تماما كما فعل يوم اختير للتحقيق في عملية تفجير ملهى "لا بيل" في برلين. والكل يذكر ان تلك المهمة استمرت عشر سنوات تقريباً بسبب سقوط ميليس في هوة المعلومات المتناقضة، او بسبب التشويش الذي احدثته وسائل الاعلام.

وفي حال صعوبة بلوغ الحقيقة التي نادى بها اللبنانيون... او في حال صعوبة اكتشاف الحقيقة التي تطابق توقعات غالبية اللبنانيين، فإن المحقق ميليس سيستمر في تحقيقه لأكثر من عشر سنوات!

مصادر
النهار (لبنان)