واهم ومخطأ كل من يتصور بأن رأس (غازي كنعان) أو أي قيادي آخر من قيادات ورسل الموت البعثية التي أمعنت في العالم العربي الخراب والتدمير طيلة الأربعة عقود الماضية، يمكن أن يمنع حسم الملف التاريخي وهو ملف (الإنهيار الحتمي للطغاة) ولفكرهم، ولدولتهم، ولأساليبهم التمويهية التي برعوا من خلالها في سلخ الشعوب العربية، و (تشليح) الجماهير من مقدراتها، وزرع اليأس والإحباط والموت والدمار في مفاصل الأمة الحيوية التي تعرضت للتكسيح والتدمير الشامل بعد سلسلة الهزائم التاريخية التي تسببت بها تلك الأنظمة ومآثرها التاريخية الكبرى في ضياع الأرض والعرض والكرامة، وبقاء تلك الأصنام التي حاولت تغيير جلودها و تصرفت بمختلف الأساليب التي شوهت شكل العملية السياسية، وتطاولت على الخيارات الحرة، وأسست لأسر جمهورية حاكمة بموجب قوانين (الإستنساخ) والوراثة الخاصة بالنعاج!! حتى تحولت أنظمة الإستبداد تلك لشكل هجين من الأنظمة السياسية الفريدة من نوعها في العالم !، فالتاريخ وتياراته وإتجاهاته تمضي في طريق، وأساليب وفذلكة تلكم الأنظمة الإستنعاجية تمضي في طريق معاكس تماما؟، وقد كان سقوط (هبل البعث الأكبر) وصنم صدام في التاسع من نيسان الخالد 2003 بمثابة رسالة واضحة لكل الطغاة والأشباه من أن لعبتهم قد إنتهت؟ وإن طريق الحرية قد تعبد بدماء المضحين والشباب الذين تساقطوا على جوانبه طيلة أربعة عقود من الكفاح والصراع المرير، ومع ذلك لم يتعظ أحد !! وتلك هي غلطة الديكتاتوريين القاتلة، فالإنحناء أمام العواصف العاتية لم يعد ممكنا ولا مفيدا وتحول لحالة عبثية ولإلتفاف على الحقيقة والموضوعية، وبات النزول عند إرادة الشعوب قدرا لا فكاك منه لكل من يريد تجنب مصير صدام المكفهر البائس !، ولكن لا فائدة مرة أخرى، فقد تمسك القوم بلغتهم الخشبية، بل زادوا طغيانا وفرعنة وتصوروا بأنه بمزيد من الرعب والتخويف وإبراز الأنياب والمخالب ستنجلي الغمة وتصفو الأجواء من جديد لدورات تسلطهم؟ ولكن هيهات أن تعود عجلة الزمن للوراء !، وهيهات أن يتمكن القتلة من الإفلات بطرائدهم أو الهروب من حكم الشعب والتاريخ، وتلك سنة الله التي لن يجد أحدا لها تبديلا.

وما يدور اليوم في دمشق من تصفيات وتسارعات وجملة من المتغيرات السريعة هو في حقيقته المقدمات الموضوعية الأولى للمتغيرات الكبيرة القادمة التي لم تعد مجرد أماني أو تنبؤات بل أضحت من حقائق الحياة السياسية، فسقوط رؤوس القمع وقادة الأجهزة الأمنية والمخابراتية هو نفس السيناريو الذي كتبنا عنه ذات مرة وأشرنا إليه بالقول : أنها عملية تفكيك دولة المخابرات؟، فمن يحكم الشام في الواقع ليس هو الجيش السوري أو المؤسسة العسكرية المرهقة المنهكة العاجزة عن الفعل والتصرف بفعل عوامل ومرتكزات عديدة ! وإنما من يحكم سوريه هو أجهزة الأمن المتعددة الأرقام والعناوين والرموز والمتوحدة في مهمتها الكبرى وهي الحفاظ على النظام من الإنهيار؟ فالمخاطر التي تهدد النظام السوري لم تكن يوما ما مخاطرا خارجية؟ أبدا لم يكن الأمر كذلك؟ بل كان الخوف كل الخوف من الشعب السوري ذاته الذي تعرض ويتعرض لأكبر عملية إرهاب وقمع وتخويف وتشريد ومحاصرة في لقمته ورأيه !، وكل من يعرف نظام البعث السوري جيدا يعلم هذه الحقيقة، ويعرف أن تسليط القرويين وأبناء الريف على مقدرات الحياة العامة هو جزء مركزي من أجزاء الملف الأمني الشامل، فقد تعرض النظام السوري على مدى تاريخه المخضب بالهزائم والنكبات لهزائم قاسية ومريرة لم تزعزع أركانه؟ فهزيمة عام 1967 التي سلم البعثيون بموجبها (الجولان) على طبق من ذهب ومجانيا لم تسقط النظام؟ بل على العكس زادت هيمنته وأفرزت تحت عباءتها قيادات فاشية جديدة تعرضت لهزائم قاسية أخرى من العدو الخارجي ولكنها إنتصرت على الشعب الذي تحكمه!! وتلك هي فلسفة الوجود الذهبية للطغاة على الدوام؟ لذلك فإن غياب (غازي كنعان) وهو العنصر المهم في التشكيلة والهيكل الأمني سيتبعه بالضرورة تساقط رؤوس أخرى كأوراق الخريف الدمشقي الزاحف الذي يعزف اليوم سيمفونية (غروب الآلهة)!!، فـــ (عم النظام) متمركز في مواقعه الأندلسية يحاول وصلا أو يموت فيعذرا؟ وبقية (السلف الطالح) من عسكر الهزيمة يشحذون سكاكينهم للإجهاز على الكعكة السورية الدسمة؟ والشعب السوري الحائر بين مختلف الشعارات والتوجهات يتلمس طريق حريته ويراها ممكنة التحقيق لأول مرة منذ منتصف القرن الماضي، وتفكك دولة المخابرات وتفككها قد أضحت من حقائق تبعات الزلازل المرتدة من لبنان والذي رغم معاناته التاريخية قدر له أن يكون (بوابة التحرير السورية) القادمة، فثمة حقائق ومؤشرات باتت اليوم تفرض نفسها على الأرض وهي تعلن عن نفسها دون مواربة وتؤكد أن هزيمة الطغاة وسلالاتهم قد شارفت على التحقق !، وإن تفكك الدكتاتورية وحكم التخلف قد أعلن عن نفسه بشكل صريح، وإن لحظة التغيير الحاسم قد بانت بشائرها... ولكن من يطلق رصاصة الرحمة؟.. ذلك هو التساؤل الأكبر في ربيع الحرية الدمشقي الموشك على الشروق.!.

مصادر
إيلاف (المملكة المتحدة)