حملة الضغوط الأمريكية على سوريا مستمرة، وتصريحات المسؤولين الأمريكيين تعلو حينا وتهبط حينا، والتسريبات الصحافية تلتقي وتتناقض.

فمن الحديث عن خطط ومشاورات تتعلق بالقيام بعمل عسكري واسع ضد سوريا، إلى ترشيح أسماء محددة لخلافة الرئيس بشار الأسد، ثم إلى أنباء عن مباحثات سرية بين أمريكيين وسوريين! إن ذلك يبدو كالمتاهة، لكنه يظهر أن نية أمريكية مبيتة ضد سوريا، تتراوح بين الحد الأقصى المتمثل بعمل يغيرالنظام، وبين حد أدنى يرمي إلى عزله وفرض عقوبات عليه... أو يستجيب للمطالب الأمريكية.

ومن الأفضل لسوريا أن تنظر إلى التصريحات والتسريبات، مهما بدت متناقضة، على أنها متكاملة. وقد ردت وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس، على سؤال في مقابلة مع مجلة (نيوزويك) الأمريكية، منتصف أيلول/سبتمبر الماضي، حول احتمال إقدام الولايات المتحدة على الخيار العسكري فقالت: إن “الرئيس بوش لا يسحب أبدا أي خيار مطروح. لكني أعتقد أن ليست هذه هي المسألة المطروحة في الوقت الراهن مع سوريا”! والحقيقة أن هذه السياسة ليست من اختراع جورج بوش بل هي سياسة أمريكية عامة تفترض الإبقاء على كل الاحتمالات قائمة، بحيث يتم اللجوء إلى الاحتمال المتاح الذي تحسمه اللحظة الراهنة.

وفي الثالث عشر من أيلول/سبتمبر الماضي، قالت مجلة (نيوزويك) إن وزارة الدفاع الأمريكية “بدأت على الأرجح مراجعة بعض خطط التدخل العسكري في سوريا، وإذ تستبعد رئاسة الأركان اجتياحا لسوريا، تلحظ بالمقابل إمكانية القيام بغارات جوية على بعض مخيمات الإرهابيين وأهداف أخرى” على الأراضي السورية.

وقبل تقرير (نيوزويك) بيوم واحد، وجه السفير الأمريكي في بغداد، زلماي خليل زاد، ما اعتبر أعنف تهديد لدمشق حتى تاريخه، إذ تحدث فيه بوضوح عن الخيار العسكري بعد (نفاد صبر) واشنطن ! وكان ذلك أثناء الهجوم الأمريكي على مدينة تلعفر العراقية، والتي ترافقت مع اتهام وزير الدفاع العراقي سعدون الدليمي لسوريا بأنها “ترسل الدمار إلى العراق” عبر الحدود.

وفي مطلع تشرين الأول/أكتوبر الجاري، كشف نائب رئيس حزب “الطريق الصحيح”، والسفير التركي السابق في واشنطن شكري الكداغ، أن مستشار الأمن القومي الأمريكي ستيف هادلي، الذي قام بزيارة إلى أنقرة في نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي، طلب من الحكومة التركية السماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة انجرليك ضد سوريا واستضافة المعارضة السورية في تركيا، مقابل صفقة عسكرية تبدأ واشنطن بموجبها عمليات ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق. وقالت مصادر حكومية تركية إن رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان رفض الاقتراح الأمريكي.

هذه السياسة تكتيك أمريكي متبع، أوله الابتزاز وآخره العدوان، والغرض منه ممارسة أكبر ضغط ممكن على الخصم لإرباكه. ويأمل الأمريكيون أن تنهار السلطة السورية بفعله وتسلم بما يريدون منها بدون أية تكلفة. لكنه، في الوقت نفسه، لا ينفي أسوأ الاحتمالات، بل يحضر المسرح لهذا الأسوأ الذي قد يتقرر لاحقا في أية لحظة. وآخر التصريحات التي صدرت عن الناطق باسم وزارة الخارجية يوم 4/10/2005 أفاد بأن واشنطن “لا تريد تغيير النظام السوري ولكنها تريد تغيير موقفه”! وجاء قوله هذا بعد أنباء سربتها صحيفتا (معاريف) و(هآرتس) “الإسرائيليتان”، قبل تصريح الناطق الأمريكي بأيام قليلة، عن (مشاورات) تجريها إدارة بوش حول سبل تغيير النظام السوري والتخلص من الرئيس بشار الأسد. وواضح أن واشنطن تعتبر تغيير سوريا لمواقفها (أي استسلامها) بديلا لتغيير النظام، وكأنما بذلك تعطي سوريا (حرية الاختيار)!! وما تتوجب الإشارة إليه في هذا الصدد هو أنه لولا المستنقع العراقي الذي تغوص فيه القوات الأمريكية لكانت سوريا قد تعرضت للعدوان منذ وقت غير قصير.

ومنذ مدة كان السؤال المطلوب من سوريا أن تجيب عنه هو: ما العمل إزاء هذه الهجمة الأمريكية المتعنتة؟ لقد استعان النظام السوري، حتى الآن، بكل ما لديه من هدوء أعصاب ومرونة، واستجاب للكثير من المطالب الأمريكية المتعلقة بالملفات الساخنة التي لسوريا علاقة بها والخاصة بالعراق وفلسطين ولبنان. لكن كل ما فعلته سوريا كان في نظر واشنطن (غير كاف)، وهو ما كان يعرفه وأعلنه الرئيس بشار الأسد منذ البداية. لقد عجزت المرونة السورية عن تلبية المطالب الأمريكية لسببين: الأول، لأن إدارة بوش المتصهينة تريد حصة للكيان الصهيوني مما تحصل عليه من سوريا (وهذه الحصة هي التنازل عن الجولان). والثاني، أن النية الأمريكية المبيتة ضد سوريا تتلخص في تغيير النظام مهما فعل وقدم.

ويبدو أن القيادة السورية وصلت في الأسابيع الأخيرة الماضية إلى استخلاص أخير، هو أنه لا خيار غير الصمود والمواجهة، وأنه في المتاهة الأمريكية لا تنفع المرونة أو التنازلات المحسوبة. وتترك التحركات والاتصالات السورية الأخيرة، التي شملت مصر والسعودية وإيران، وكذلك الزيارة الأخيرة لوزير الدفاع السوري العماد علي حبيب لموسكو، والتي تركزت على تدريب وتحديث أسلحة ومعدات الجيش السوري، وبعض مؤشرات أخرى... تترك انطباعا بأن ما يجري الآن نوع من المراجعة للتكتيكات السورية المتبعة، وأن القيادة السورية أصبحت أكثر اقتناعا بأن واشنطن لا تريد منها أن تتعاون معها، لكنها تريدها أن تستسلم لها. وتبقى الجبهة الداخلية المتينة هي الجدار الذي يتوجب على هذه القيادة أن تستند إليه إن قررت أن لا تضيع في المتاهة الأمريكية!

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)