مع بدء العد التنازلي لتسليم ديتليف ميليس تقريره للأمين العام كوفي أنان, وبعد تراجع المد الهستيري للشائعات التي واكبت التحقيقات, وظهور مؤشرات عديدة على عدم وجود ما يدين سوريا ويحملها المسؤولية عن جريمة اغتيال الرئيس الحريري,بدأت بعض الأصوات التي رفعت شعار الطلاق مع سوريا ودخلت حفلة زار على شرف القطيعة, تعلن بخجل ضرورة الإبقاء على علاقات جيدة مع الجارة الشقيقة رغم ما تسببه من آلام. آخرون ممن حُسِبوا على فريق الوصل, ووقفوا بخجل مع فريق القطيعة, عتبوا على سوريا لأنها لم تفعل اللازم لامتصاص فورة الغضب اللبناني, فتمنوا لو أن الرئيس بشار الأسد عبر عن موقف قاطع في وضوحه حول جريمة اغتيال الرئيس الحريري قبل ثمانية أشهر, وأنه «لو فعل ذلك حينها, لكان وفر على سوريا ولبنان الكثير من الأثقال النفسية».

ترى لو فعل ذلك الرئيس السوري, هل كان في لبنان من سيسمع صوته؟ ألم يكن الموقف السوري واضحاً في البيان الرسمي الذي دان الجريمة؟ ألم يكن كذلك في تصريحات المسؤولين السوريين في الفضائيات العربية؟ من كان حينها في لبنان مستعداً لسماع أي صوت سوري, فيما كانت تجلجل صرخات «برا برا سوريا اطلعي برا» وشعارات أخرى, بلغت حد طلب الثأر والانتقام من العمال السوريين وتوجيه الإهانات الصريحة لسوريا وشعبها على الهواء مباشرة وعلى مسامع العالم أجمع, بتحريض من القوى ذات المصلحة في تقويض العلاقة بين البلدين, وأخرى قلبت مواقفها 180 درجة, سيطرت على الإعلام ونجحت في اختزال المشهد اللبناني بحشود هادرة ومُسيَّرة, تلاعبوا بعواطفها وطموحاتها, كما برعت في تدويل الموضوع اللبناني, ورهنت مصيرها بقرارات البيت الأبيض.

أي رئيس دولة في العالم كان سيمتلك من الصبر ما يمكنه من ابتلاع كل هذا الهياج الموجه ضده وبمؤازرة دولية وتواطؤ عربي, ليخرج إلى تلك الجموع ويهدئ من روعها, بإعلان موقف قاطع في وضوحه, دون أن يفسر تصرفه على أنه محاولة لدفع الاتهام عنه, أو دون أن يفهم من تصرفه هذا أنه استفزاز لموجة الغليان الشعبي على موقد السياسات الضيقة والمتضاربة. انفض الجمهور اللبناني بعد أن بالغ في إدماء الجمهور السوري, ومع ذلك لم تنطفئ نار التحريض في الإعلام, بل استمرت في إخماد العقل والتعقل, لتتحول أي حركة على الساحة السورية إلى حدث, وضبطت الساعة على توقيت حركات وسكنات المحقق ديتليف ميليس, لتبلغ الذروة مع اقتراب موعد قدومه الى دمشق, واستُبقت الزيارة بأنباء صورت الحدث وكأن نهاية سوريا باتت وشيكة, إذ سيلقى القبض عليها وتشحط شحطاً مكبلة بالجنازير كما شحطت زنوبيا إلى روما لتمثل أمام العدالة الدولية, أو لتوضع رقبتها تحت المقصلة وتنال جزاءها على ما ارتكبت يداها من جرائم لا تحتاج إلى أدلة ومحاكمة. ثمانية أشهر, والسوريون ليل نهار يتعرضون لهذا الضغط. أما حين ينتقد المسؤولون في سوريا مجرد انتقاد هذه الحملة, ويتهمونها في الإسهام بدفع اللواء غازي كنعان الى الانتحار, يأتي رد وزير لبناني على عجل «بأنهم لا يقبلون الاتهامات السورية الدائمة لوسائل الإعلام», فيما يتوجب على سوريا كلها, لا وسائل إعلامها فقط أو حكومتها أن تتحمل الاتهامات اللبنانية بالضلوع في جريمة اغتيال الرئيس الحريري, فور وقوع الحدث!! ثم إذا كان الحدث قد استغل لإخراج سوريا من لبنان, فها هي سوريا خرجت ولم تتوقف الاتهامات, بل وباتت تركز على تحمل مسؤولية حدوثها, وإن لم تكن متورطة فيها!!

قد لا يجوز للسوريين لوم الإعلام اللبناني, لأن إعلامهم مكتوم الصوت, لكن هذا لا يعفي الإعلام اللبناني من صم آذانه عن سماع وقع الهزة التي أحدثتها تداعيات جريمة 14 شباط €فبراير€ في الشارع السوري. المشهد تكرر مع حدث انتحار اللواء غازي كنعان, الذي وقع في قلب دمشق, وخلف صدمة وذهولاً كبيرين في سوريا, لم يلحظه إعلام لبنان الذي تلقف الحدث وأعاد تصديره إلى سوريا كحدث لبناني بامتياز, مرفقاً بشبهة جرمية, توجه أصابع الاتهام الى سوريا ثانية. فإذا خرجت من قضية الحريري, ستبقي قضية كنعان عالقة حسب الصيغة اللبنانية الجديدة لكنعان كأحد أركان المعارضة للسياسية السورية في لبنان!! لا المسؤول السوري حاكم لبنان الفعلي والمتحكم بأمره على مدى عقدين من الوجود السوري هناك!!

اللواء كنعان تمنى قبيل ساعة من رحيله على الإعلاميين في رسالة إلى وسائل الإعلام اللبنانية «أن يتقوا الله فيما يقولون» لماذا لم يُسمع هذا النداء, وتم التركيز على انه التصريح الأخير, المرفق بتعليق «انتحر» أم «انتحروه» أم «نحروه» أم «نحر»... إلخ من تفننات في مصطلحات الاشتباه والتشكيك. ثانية, لم يتقوا الله, لا في ما يقولون ولا في الشعب في البلدين, ولا بمصير غامض تُدفع إليه المنطقة برمتها, سيكون لبنان أول الخاسرين فيها.

سوريا بلد الإعلام المنقاد والمقيد, تعاملت مع إعلام لبنان الحر والمتحرر, وكأنه إعلامها, بل وعوضت من خلاله غياب الإعلام لديها, ما أجل تلبية حاجة سورية لصحافة حرة عقوداً طويلة, فهل يجوز لهذا الإعلام الإساءة إلى جمهوره في سوريا, وممارسة الضغط النفسي عليه عبر بث متواصل للشائعات والتسريبات والأخبار غير المؤكدة, والتحليلات المضللة, بحجة معارضة النظام السوري؟ ترى ألا يعتبر ذلك على الضد من أخلاق المهنة؟

يقال ليت الرئيس السوري قال قبل ثمانية أشهر ما قاله لمحطة الـ«سي إن إن» الأسبوع الماضي, ونحن نقول ليت المعنيين في لبنان سمعوا قبل ثمانية أشهر ما بحت الحناجر في قوله, وليتهم يسمعون ما يقال الآن.. هل يريدون السمع: أوقفوا هذه الهستيريا, واتقوا الله في ما تفعلون

مصادر
الكفاح العربي(لبنان)