عندما نقرر تجاوز المسافة التي تفصلنا عن تقرير ميلس نستطيع التحرر نسبيا من "كثافة" الحدث، حيث تبدو الصورة وكأنها "بانتظار القيامة" وسط حرب استباقية لم تهز معنويات الشارع السوري بقدر إدخالها عالم من التخمينات إلى مجال ثقافي مضطرب أصلا. فاللحظات العصيبة غالبا ما تولد "الأفكار" أو تجمع شتات الماضي والحاضر وتدعو الكثيرين لمراجعة الحسابات. ولحظات الخطر تعادل ومضات الخلق لأنها تستدعي التفكير، ومن هذه الزاوية تظهر الملامح السوداء لتضارب المعلومة أو التقرير أو التحسبات وسط حرب استباقية انتقلت من الأسلحة الذكية إلى "الإعلام الخارق" ...

ولا أحد يشكك في حرية الإعلام أو ضرورة نبشه للحقائق وتتبعه لعمليات السبق، أو استكمال زمنه الخاص عبر الخبراء والمحللين والمقررين للمستقبل من خلال قدراتهم الفلكية التي وضعت قواعد علم الكون على حدث سياسي واحد ... تقرير ميلس هو "ثقب أسود" داخل علم السياسة سيمتص الجميع وفق مقاربة فلكية غير محسوبة النتائج. وربما يبدو من الخطر التشكيك بأهمية ما سيترتب عن هذا التقرير، لكنه حتى اللحظات الأولى سيبقى مجهولا، وستستمر مراكز الأبحاث في حساب الاحتمالات، بينما نبقى غارقين في "انفجار الافتراضات".

نظرية "الثقوب السوداء" لم تعد مجالا فلكيا فقط لأننا قادرون على توظيفها والاستكانة لهذا المصير، دون بحث أو محاولة للتعامل مع الخطر بنوع من المجازفة و "الخلق" ... والثقافة المضطربة منعتنا من تحليل الأزمة منذ أن قررت الولايات المتحدة أن قدرتها على تنظيم العالم تجاوزت خلق التوافقات باتجاه فرز الصراعات وتفجير الضعف الإنساني وخوفه من الحروب. فهل علينا قراءة الولايات المتحدة أم قراءة أنفسنا حتى نعرف أن تقرير ميلس مهما كانت نتائجه هو في النهاية صورة عن الرغبة في تصفية السياسات الأمريكية القديمة، والدخول إلى عالم تتراكب في الصراعات.

عندما تصدمنا الولايات المتحدة مستقبلا باحتمال جديد بعد تقرير ميلس، فسنكون نحن المسؤولين عن أي حدث، فخيال هوليود هو في النهاية ثقافة لا تحتاج إلا أي إذن حتى تدخل عالم السياسة. بينما نستطيع الغرق في تتبع المؤشرات وسط خيالنا المغلف بصرامة عقلية تمنعنا من تكسير "العادة الثقافية" في التتبع نحو التفكير والبحث .... متى يمكننا اعتماد البحث العلمي لمواجهة الحاضر؟ إنه السؤال الذي ينتظر مرحلة الابتعاد عن الوهج الإعلامي، والاقتناع بإن الصورة الإعلامية التي نشهدها هي في النهاية نتيجة استقراء عالمنا وليست حالة طارئة بعد احتلال العراق واغتيال الحريري و ... تقرير ميلس.