على مدى ثلاثة عقود ونيف، أي منذ الحركة التصحيحية التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد وحتى اللحظة المعاصرة، لم يهدأ “الصراع على سوريا” هذا ما يقوله الواقع وما تشهد عليه روايات شهود مقربين (باتريك سيل واضع السيرة الذاتية المتعاطفة مع الأسد في كتابه “الصراع على سوريا: صراع الأخوة” وشهود عيان “مذكرات مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري السابق”). ومما يروى في هذا المجال كما جاء على لسان دنيس روس في كتابه “السلام المفقود: خفايا الصراع حول سلام الشرق الأوسط 2004” أنه عند وفاة نجل الرئيس السوري باسل الأسد بحادثة السير المعروفة توجه الى القصر الجمهوري كل من مصطفى طلاس وزير الدفاع آنذاك وحكمت الشهابي رئيس الأركان آنذاك وعلي دوبا رئيس شعبة المخابرات العسكرية آنذاك، وما إن دخلوا على الرئيس الأسد ليستأذنوه في قول الخبر، فما كان من الرئيس إلا أن تساءل: هل هناك انقلاب؟

مع كل تلك المخاوف، فقد كانت تلك الحقبة الممتدة على ثلاثة عقود، حقبة لافتة للنظر، فقد تمكن “الأفندي” والمقصود بذلك الراحل حافظ الأسد كما ينعته شيمون بيريز، من تطوير إدارة فن الأزمة مع “الإسرائيليين” ومن إرساء قواعد الأمن في سوريا، ولعب دور إقليمي عربي كبير، ومن التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية لتحرير الكويت ....الخ.

من هذا الإرث الكبير والثقيل الذي تركه حافظ الأسد، الذي يستذكره السوريون وبخاصة في هذه الفترة الحرجة والصعبة التي تمر بها سوريا، والتي يراد لها كما يطمح أعداؤها الى تعليق مشنقتها بنفسها او دفعها الى الانتحار، يجد المتابع للشأن السوري أن الواقع السياسي والمجتمعي السوري تتناهبه رؤيتان:

* الأولى: ترى أن مجمل السياسات السورية في فترة ما بعد حافظ الأسد، تمثل انحرافا عن الإرث الكبير الذي تركه الراحل، وبخاصة فيما يتعلق بالموقفين من لبنان والعراق، وهذا ما لمح إليه مرارا الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، وما تلمح إليه نخب سياسية وثقافية موالية ومعارضة داخل سوريا، فمن وجهة نظر هؤلاء، أن الإدارة الحالية للرئيس بشار الأسد، لا تهتدي في ليلها الطويل هذا بالنهج الذي أرسى قواعده الرئيس الراحل، ولا ترى ما رآه حافظ الأسد من انقلاب في الموازين بعد انقضاء فترة الحرب الباردة، وبالتالي فهي لا تدير مصالحها ولا تلعب أوراقها بالمهارة نفسها التي أتقنها حافظ الأسد، فعلى الرغم من أن الرئيس السوري الراحل كان متأثرا بالرأي العام السوري بشأن المسائل الجوهرية (مباحثات السلام مع “إسرائيل”، كذلك الحرب على العراق) كما يذكر دنيس روس إلا انه لم يكن أسير الأيديولوجيا، فكان صاحب المبادرة دائما. من هنا يعيب أصحاب هذه الرؤية على الإدارة السورية الحالية، أنها لم تتقن ما سماها احدهم “الرقصة الدبلوماسية الرزينة” فراحت تتخبط كسفينة وسط أمواج عاتية على هواها، تحكمها ردود الفعل في الداخل والخارج، وبالأخص على الصعيد اللبناني الذي ارتد عليها كقدر لا مهرب منه، وذلك على الرغم من كثرة التحذيرات التي حذرت هذه الإدارة من اللعب على هواها بالورقة اللبنانية.

لا يكتفي أصحاب هذه الرؤية، بالإشارة الى سلوك الإدارة السورية في لبنان الذي جلب لها المصاعب والمتاعب، بل يعيبون على الرئيس السوري اندفاعاته القومية أثناء احتلال العراق، ويعيبون عليه عدم تعاونه مع الإدارة الأمريكية في محاولة للحفاظ على البلد، ويعيبون عليه ضعف إدارة الأزمة عموما.

* الرؤية الثانية: ويمثلها “الحرس الجديد” إن كان لابد من هذا التقسيم الإجرائي الذي يميز بين الحرس القديم والآخر الجديد، فعلى الرغم من إيمانها بأن سيرة الراحل هي خط احمر وأن نهجه ورؤيته الاستراتيجية هما الثوابت التي تهتدي بها إدارة الرئيس بشار، إلا أن واقع الحال لا يستدعي استنساخها، فثمة واقع جديد تمثل بعودة الاستعمار الى المنطقة العربية ممثلا بالاحتلال الأمريكي للعراق، وان الأمريكيين يريدون للورقة العراقية أن تكون بمثابة القشة التي تقصم ظهر البعير السوري، فهم لا ينشدون تعاونا أمنيا مع سوريا، فقد قدمت سوريا الكثير في هذا المجال، وهذا معروف للقاصي والداني كما يذكر الصحافي الأمريكي سيمور هيرش، وإنما يهدفون الى إركاع النظام السوري وحمله إما على شنق نفسه، او تغيير نفسه كما يريد الأمريكيون، وهذا ما ذكره الرئيس بشار الأسد لمراسلة ال “سي إن إن” بقوله: “نحن لا نعلم ماذا يريد الأمريكيون بالتحديد” وقد سألناهم مرارا “ماذا تريدون من سوريا وحتى الآن لم يأتنا الجواب” ومن وجهة نظره أن المشكلة الآن هي “مشكلة سياسة وليست مشكلة حدود مع سوريا” وهذا صحيح الى حد كبير.

في سياق التجاذب والتسابق بين رؤيتين وحرسين ومحورين، يمكن لنا تفسير حادث انتحار وزير الداخلية غازي كنعان المحسوب بدقة على الحرس القديم (عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي) وعلى إرث حافظ الأسد، بصورة أدق، احتراقه بمعمودية بشار كما سماها ليفنت ليفريت في كتابه الشهير عن “وراثة بشار” والأرجح، أن كثيرين سيحترقون بمعمودية بشار الذي صنع خطوطا حمراً وأحزمة من نار لكل من يخاطر بالخروج عليه، معتبراً ذلك ضربا من “الخيانة” كما جاء في لقائه مع مراسلة “سي.إن. إن”.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)